محمود النقراشي
يعيش العالم العربي والإسلامي منذ ما يربو على ثلاثة عقود إفرازات ما كان يعرف حينها باسم (الصحوة الإسلامية)، وهي ظاهرة لها جذورها الاجتماعية والتاريخية، ولها دينامياتها النفسية، وتتفاوت تجلياتها قوة وضعفاً من بلد إلى آخر.
وللخروج بنتائج عامة حول طبيعة اتجاهات ونوع تطلعات الجماعة الدينية المشتغلة بالسياسة، ينبغي النظر إليها ضمن المعطيات التاريخية المحددة لنشأة الظاهرة، وتطورها، وينبغي أيضاً أن نستشف مفعول تلك المعطيات التاريخية في تشكيل ملامح وخصوصية العلاقة بين الديني والسياسي.
فعند الكشف على الجذور التاريخية لمسار الحركات الدينية المعاصرة لا بد من استخدام المنهج التاريخي، واستقراء تاريخ كل عنصر من عناصر هذه الظاهرة، ولا بد من استخدام المنهج الوصفي أيضاً لدراستها من حيث هي واقع قائم.
والجماعة الأم التي وضعت حجر الأساس لبناء الإسلام السياسي كانت في مصر المعاصرة، ثم تفرعت من تلك الجماعة كما هو معروف جماعات دينيه لا تزال تعمل في ميدان الإسلام السياسي. ودراسة جماعات الإخوان المسلمين أو الجماعة الأم في إيجاز غير مخل لهي مطلوبة في هذا المقام لاعتبارين:
الأول: الكشف عن الجذور التاريخية للإسلام السياسي المعاصر. كيف استنبتت جذوره، وكيف أينعت وأثمرت ثماره.
الثاني: إن جماعه الإخوان المسلمين الأم ما زالت تعمل في ميدان الإسلام السياسي جنباً إلى جنب مع الجماعات الفروع.
ويدخل في يقين كاتب هذه السطور أن الإسلام السياسي بتعدد أطيافه، وبتباين روافده وتياراته، لا يعدو كونه (ظاهرة تاريخية) أقصى سقف لمردودها الإنساني هو أدلجة المصالح الوقتية للشرائح المرتبطة بالظاهرة ارتباطاً تاريخياً ووجدانياً وإنسانياً، وبأقل القليل من الكدح الفكري؛ لذلك هي مجرد ظاهرة لا تدخل في عداد المناهج الفكرية ذات الطبيعة المدرسية. ودراسة ظاهرة بهذا التوصيف لن تكتمل إضاءة مشهدها بمعزل عن التعرف إلى الشخصيات التي كان لها دور فعال في حياة هذه الجماعة منذ النشأة الأولى لها، وإلى أن تشعبت وأصبحت جماعات لا جماعه واحدة.
والشخصيات التي يعرف لها هذا الدور الفعال في حياة جماعه الإخوان المسلمين فيما نري ثلاث شخصيات؛ حسن البنا، وعبد القادر عودة، وسيد قطب.
أدى الأول دور المنشئ للجماعة، والباني للتنظيم الهيكلي، والمحدد لمضمون الدعوة وأهدافها ووسائلها.
بينما أدى الثاني دور المفكر الذي يقوم بعملية التأصيل، حيث يرد كل فكرة تتبناها الجماعة إلى أصولها الدينية؛ مبيناً وشارحاً عبر عمليات تنظير تنتهي دائماً إلى إن ما جاء به الإسلام هو الأفضل، وهو الذي يقدم الخير للبشرية، ويسعد الناس فهو من صنع الله، وليس من صنع البشر.
أما الثالث، فقد أدى -حسب ظني- الدور المهم في حياة جماعة الإخوان المسلمين، وفي حياة جماعات الإسلام السياسي التي تلت، بما أدخله من تغيرات وتعديلات علي فكر الجماعة، الذي كان تلقينياً ذا قوالب جامدة في التعاطي، فعرفت الجماعة على يديه الحوار الساخن، والجدل العنيف، والاستقطاب الفكري، وانتهي الأمر إلى وجود تيارات، ثم جماعات تدعو إلى فكرها، وتعمل لحسابها الخاص، ونحن إذ نقف مع كل واحد من هؤلاء الثلاثة، نتعرف في غير استطراد إلى المساهمة التاريخية لكل واحد منهم.
حسن البنا هو الشخصية التي حملت نفسها مسؤوليه تكوين هذه الجماعة في مصر أولاً، ثم في مختلف البلدان الإسلامية ثانياً.
والمسار التاريخي لحياة حسن البنا قبل تكوين هذه الجماعة يكشف لنا عن بعض من الوقائع التي كان لها أثرها البالغ في توجيهه الوجهة الدينية تلك.
فقد ولد حسن البنا، وعاش في بلدة المحمودية، وهي مهد الطريقة الحصافية، وقد كان في صباه ومطلع شبابه من اتباع ومريدي الشيخ عبدالوهاب الحصافي، الذي كان معروفاً بأنه دائماً ما يوصي اتباعه ومريديه بمجاهدة الزنادقة والملاحدة والمبشرين، ولعل حسن البنا استبطن نزعه شيخه تلك، وتأثر بها، وصبغ بها تدينه الشخصي، ومن ثم صارت تلك النزعة ذات أثر بالغ في عمل الجماعة وفكرها.
ويحكي أنه كان في بلده المحمودية إرسالية إنجيلية تبشيرية، تعلم التطبيب، وفن التطريز، وتأوي اليتامى، ثم تأسست كرد فعل لتلك الجمعية في المحمودية جمعيه تأخذ على عاتقها مواجهة ما تقوم به الإرسالية من عمل، وتدعو إلى مقاومه المنكرات، وتلك هي الجمعية الحصافية الخيرية.
وكان حسن البنا هو السكرتير لهذه الجمعية، وبمن ثم، فإن مقاومة التبشير التي لازمت بدايات فكر الإخوان وخطابهم هي من رواسب تلك الوجهة التي وجهته إليها الطريقة الصوفية الحصافية، وهي كانت طريقه ذات سمات خاصة، إذ كان يقوم خطابها على جمع غير موفق بين الصوفي بنهجه الدعوي التسامحي والسلفي بغلوائه وتشدده. ولكن كل تلك الوقائع لم تجعل من حسن البنا الإنسان المنصرف إلى العمل السياسي , فلم يتحقق له ذلك الا بعد أن انتقل إلى القاهرة، طالباً في مدرسه دار العلوم، وأخذ يغشي مجالس رجال الفكر الديني، وقد ذكر ذلك بنفسه في كتابه (مذكرات الدعوة والداعية) .
وانه في تلك المرحلة بالذات، كانت قضيه نظام الحكم في الإسلام مطروحة بعنف. يطرحها رجال الدين، وكذلك رجال السياسة، ويتحاورون حول كل بعد من أبعادها.
وكان الدافع لذلك كله أن كمال اتاتورك ألغى منصب الخلافة، وعزل الخليفة، وأحل محل نظام الخلافة النظام الجمهوري المؤسس على المبدأ السياسي (مبدأ القوميات). وقد أثار هذا الصنيع من أتاتورك العواصف ورأى بعضهم أن الأخذ بنظام الحكم الوارد من الغرب، وإحلاله محل ما يعتقدون بأنه النظام الديني الإسلامي هو خروج على الإسلام.
ومن الناس في مصر من رأى الفصل بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية في منصب الخلافة، وأن الخلافة هي منصب ديني لا غير.
ومضى السياسيون في مصر على هذا الرأي الأخير، لكن رغبه الملك فؤاد في استرداد السلطة التي فقدها بحكم دستور 1923م جعلته وأعوانه يتمسكون بالرأي القائل إن الخلافة منصب ديني سياسي في وقت واحد معاً.
ثم صدرت في هذا الجو المشتعل دعوات أخرى مفادها قفل باب الجدل، وأن تكون دعوه الناس إلى الله، وليس إلى خليفه أو خلافة.
وتأثر البنا بهذا المناخ الفكري، فتبني أول الأمر فكرة الدعوة إلى الله، ثم تحول عنها إلى الدعوة إلى الحكم بما أنزل الله كما سنرىي عند الحديث عن جماعة الإخوان، ولكن تبقي مناهضه التبشير والمبشرين والدعوة الي الله هما الأثران البارزان اللذان استمرا في حياة البنا، بعد أن أنشا حركة الإخوان، وأصبح المرشد العام لها، عندما كان يعمل مدرساً بمدينة الإسماعيلية عام 1928م، ومنذ ذلك الحين انطلقت جماعه الإخوان في ميدان العمل على رد المؤمنين بالحضارة الغربية، والداعين إلى الأخذ بما يعتقد الإخوان أنه قيم إسلامية ترتفع إلي مرتبة القداسة، وتفوق قيم المدنية الأوربية في كل شيء. ولم يكون الإخوان المسلمون هم الذين يعملون وحدهم في هذا الميدان، فقد كانت تعمل الي جانبهم الجمعيات الدينية السلفية، إلا أن الشيء الذي امتازت به جماعه الإخوان المسلمين من هذه الجمعيات هو أنها أقبلت على العمل السياسي، ونادت بأن الإسلام دين ودولة، ولم تتخذ جماعة الإخوان هذا الموقف من الإسلام السياسي، إلا بعد أن امتلكت القوى البشرى اللازمة لتلك المواجهة.
وفي هذه المرحلة أخذ البنا يكتب تحت عنوان آخر غير العناوين السابقة. أخذ يكتب تحت عنوان “دعوتنا في طور جديد”.
في هذا الطور الجديد اتسع ميدان الدعوة، وتغيرت أهدافها، فأصبح امتلاك السلطة من حيث إن هذه السلطة التي سوف تكون أداة الدعوة إلى الله حسب الادعاء السائد في خطاب الإسلام السياسي، وتغيرت وسائل تحقيق أهداف الدعوة فأصبحت الجهاد بدلاً من الحكمة والموعظة الحسنة، ولم يفصح الإخوان عن رغبتهم في السلطة منذ النشأة الأولى لهم حين كانوا لا يملكون القوه التي تدفع بهم إلى محاولات السعي إلى الاستيلاء على السلطة. وهنا وقفوا عند مطالبة الحكومة بالعمل في سبيل الله.
ولقد تساءل البنا في مقال كتبه تحت عنوان “الدعوة إلى الله.. على من تجب؟”، وأجاب أنها واجبه على الحكومة أولاً؛ لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وأنها واجبة ثانياً على دار النيابة؛ لأنها السلطة التشريعية التي تصدر القوانين، ثم هي واجبه في النهاية على العلماء والطلبة المسلمين.
وأهاب بالحكومة باعتبارها المسؤول الأول بالاهتمام بالتعليم الديني ومنع المجلات الهازلة، وغلق أماكن اللهو الخليع، والعمل بالشعار الذي وضعته في أول الدستور، وهو أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام. ورأى البنا أن الأمر الجوهري في الإسلام أنه دين ينشد إقامة حكومة إسلامية تنشر الدعوة، وتبلغها، واستمر البنا يعزف على وتر إقامة الحكومة الإسلامية؛ من أجل نشر الدعوة، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم في نشره وتبليغه لدعوة ربه لم يحتج؛ لأن يصبح حاكماً ذا سلطة سياسية، أو ملكاً يتوسل بالفرمانات، ومؤسسات القمع، وقد حدد القران الكريم مهمة الرسول- صلى الله عليه وسلم- تحديداً حاسماً بأن قال “وما علي الرسول الا البلاغ المبين”، وقد وصف القرآن طبيعة الرسالة المحمدية بأنها رحمه للعالمين، ووصف طبيعة سلطانه في نطاق أن النبي صلى الله عليه وسلم هو هادي ومبشر ونذير ينطلق من سلطه الموعظة الحسنة.
ثم مضى البنا إلى ما هو خطر حينما صرح: أن الإخوان سينتقلون من دعوة الكلام وحسب إلى دعوة الكلام المصحوب بالنضال، والعمل، وقال: سنعلنها خصومة، لا سلم فيها، ولا هوادة حتي يفتح الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الفاتحين.
وحسن البنا لم ينقل خطاب الإخوان تلك النقلة، ولم يتوجه بهذا القول إلا وهو يعلم أن هناك الكتائب التي أعدها لما يعتقد أنه الجهاد. أعدها في السر لا في العلن، وشعارها دائما أمر وطاعة من غير بحث أو مراجعة، فكمال الطاعة عند جماعات الإسلام السياسي يعدّ فريضة واجبة لتحمل أعباء جهاد لا هوادة فيه، وصولاً إلى غاية مقدسة، وهي تأسيس الحكومة الإلهية علي أنقاض السلطة السياسية الكافرة.
وهكذا كان حسن البنا يعدّ كتيبة أو كتائب الجهاد التي اغتالت رئيس الحكومة آنذاك محمود النقراشي باشا، وهي التي حاولت اغتيال الرئيس عبد الناصر، وهي التي تفرعت عنها جماعه الجهاد التي اغتالت السادات.
وهكذا وضع البنا قواعد الصراع مع السلطة من أجل الوصول إليها، وتحقيق الدولة الدينية.
ومن كل ما سبق يمكن أن نصل إلى خلاصة عن الدور الذي أداه حسن البنا في حياة الجماعات الدينية التي في ميدان السياسة بإبراز العناصر الآتية:
أولاً: الطاعة العمياء: وواضع هذه القواعد هو المرشد العام لجماعه الإخوان، وهي قاعدة موضوعة على أساس ألا تكون هذه الطاعة لأحد بذاته، وإنما هي طاعة لله، وليس لأحد أن يعصي الله عز وجل، والقسم الذي يقسم به العضو الذي يلتحق بالجماعات الدينية هو الذي يلزمه بهذه الطاعة وأبعادها.
ونستطيع إن نورد هذا القسم كما جاء في النظام الأساسي لجماعه الإخوان المسلمين:
(أعاهد الله العلي العظيم على التمسك بدعوه الإخوان المسلمين، والجهاد في سبيلها، والقيام بشرائط عضويتها، والثقة التامة بقيادتها، والسمع والطاعة في المنشط والمكره. وأقسم بالله العظيم على ذلك، وأبايع عليه، والله على ما أقول شهيد).
وهذه الطاعة العمياء هي الحرف الأول في جمله جماعات الإسلام السياسي “المفيدة”.
ثانياً: العداء لكل النظم التي حلت محل الإسلام، والتي تسمي في عرف الجماعات الدينية بالأفكار المستوردة. والعمل الجاد في سبيل القضاء عليها.
ثالثاً: العنصر المهم جداً، والذي تفوق أهميته ما عداه من عناصر أخرى، والذي يشكل الأداة الثورية الأساسية في عمليات التغيير عند جماعات الإسلام السياسي هو الجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس. ولأهمية هذا العنصر عند جماعة الإخوان أشار إليه البنا كثيراً، وجعله الفريضة الدينية التي لا تقل عن الفرائض الأخرى كالصلاة والصوم.
وقد قال البنا في”رسالة الجهاد”: “أيها الإخوان. إن الامه التي تحسن صناعه الموت، وتعرف كيف تموت الموتة الشريفة يهب الله لها الحياة العزيزة في الدنيا، والنعيم في الآخرة، وما الوهن الذي أذلنا إلا حب الدنيا وكراهية الموت. فاعدوا أنفسكم لعمل عظيم واحرصوا على الموت توهب لكم الحياة”.
وهكذا غرس البنا فسيله العنف التاريخي الذي مازال الإسلام السياسي المعاصر يعلقها تميمة على قلبه.