لا شيء يمكن أن توصف به الدولة الوطنية السودانية، الآن، وقد بلغ عمرها الآن اثنتين وستين عاما، سوى أنها دولةٌ ظلت أسيرةً لحالةٍ ممتدةٍ، من العجز المزمن. كتب الصديق، الدكتور سلمان محمد أحمد سلمان، قبل أسابيع مقالةً حكى فيها كيف شاهد، عبر زيارتين لدولة رواندا، انتقالها، في فترة قصيرة، من درك سحيق من العجز، والفوضى، والعنف العرقيٍّ، نادر الشبيه، إلى دولةٍ تنعم بالاستقرار وبالتعايشٍ السلمي، وبنهضةٍ شاملة، سريعةٍ، ثابتة الخطوات. وقد بعثت في نفسي، مقالة الدكتور سلمان، الكثير من الأمل، في امكانية انصلاح أحوالنا، بعد أن كدت أن أستسلم، هونًا ما، لليأس والقنوط.
من النقاط اللافتة في مقالة د. سلمان، ذكره لحوارين قصيرين، أجراهما مع شخصين من رواندا، أحدهما سائق، والآخر أكاديمي. وكان الحوارين القصيرين، حول رأييهما فيما يتعلق بتعديل الدستور، لإتاحة الفرصة للرئيس الحالي بول كاغامي، للترشح لفترةٍ رئاسيةٍ جديدة. ففي حين وافق السائق على تعديل الدستور، والتمديد للرئيس كاغامي، معلِّلاً موقفه بأنه لا يريد لرواندا أن تعود إلى الانقسام العرقي، وإلى الفوضى. هذا في حين اعترض الأكاديمي، على تعديل الدستور، لأن في ذلك، في وجهة نظره، خرقًا لقواعد الديمقراطية وإخضاعًا لما ينبغي أن تكون عليه الدولة من حيث المؤسسية، لما يراه البعض صفاتٍ إيجابيةً في شخص ما. الشاهد، أن الإرادة الشعبية ارتضت تعديل الدستور، وخاض كاغامي انتخاباتٍ جديدة، وفاز فيها بنسبة 99%.
الآن يثور الجدل في السودان، حول تعديل الدستور، ليتسنى للرئيس عمر البشير خوض انتخابات 2020، من أجل فترة رئاسية جديدة، تمتد حتى 2025. ولو قارنا إنجازات بول كاغامي في رواندا، بإنجازات الرئيس البشير في السودان، لبان لنا التباين، والتدابر التام في المسيرتين. فمن حيث مصلحة البلاد، والعباد، وسلامة القطر، لا يوجد، في نظري أي مبرر للتجديد للرئيس البشير. فقد أُتيحت له فرصٌ لم تتح قط، لرئيسٍ سودانيٍّ آخر، منذ فجر الاستقلال. غير أنه أهدر كل تلك الفرص، بإصرارٍ، ومثابرةٍ، يحسد عليهما.
على سبيل المثال، أُتيحت للرئيس البشير، فرصة المفاصلة وانقسام الإسلاميين، وخروج الدكتور الترابي من معادلة الحكم، ومعه رؤاه الجانحة، المنسوجة من خيوط الإيديولوجيا الدينية، والأوهام العريضة، عابرة الأقطار. في ذلك الانشطار التاريخي، تركت أكثرية الإسلاميين الزعيم والمرشد، الدكتور حسن الترابي، وانحازت لصف الرئيس البشير. مفضِّلةً في انحيازها له، المناصب، والوجاهة، والمال، على المبدأ والأشواق الدينية “المرمنسة”romanticized . غير أن المجموعة التي قفزت من مركب الشيخ إلى مركب البشير، لم تستطع أن تتخلى، كليَّا، عن الأوهام الإيديولوجية، والخطاب الديني الفج. وحين أُتيحت للرئيس البشير فرصة اتفاقية نيفاشا، التي كانت تصلح لأن تصبح قاعدةً للاستقرار السياسي المفقود منذ عقود، ولتحوّلٍ ديمقراطي، ولوحدةٍ وطنية، ولأداةٍ لإطفاء جميع الحرائق في الوسط النيلي، وفي الأطراف، أهدر الرئيس البشير فرصتها، بإسناده الأمور إلى المؤدلجين، مثال: نائبه، علي عثمان محمد طه، ود نافع علي نافع، والبوق متقلب المزاج، الطيب مصطفى، ومن لف لفهم. وهكذا، ضاع الجنوب، وضاع نفط الجنوب، ودخلت البلاد في صراعاتٍ جديدة، وعادت إلى مربع الفقر والإفلاس الأول. وبعد أن ضاع كل شيءٍ، جرى إبعاد علي عثمان ونافع، وزمرتهم، ولكن، “بعد خراب سوبا”. فكان إبعادهم بلا معنى؛ أي بلا أي تأثيرٍ إيجابي، على الأداء السياسي. ففرصة التوقيت الذهبية لإبعادهم، ولتعديل المسار، كانت قد ضاعت.
أُتيح للرئيس البشير، ما يقدر ب 60 مليار من الدولارات، في فترة الفقاعة النفطية. ويقال إن الرقم أكبر بكثير من هذا، إذ لا أحد يعلم على وجه الدقة. غير أن تلك الفقاعة انفجرت بسبب سوء التصرف في التعاطي مع مشكلة الجنوب، وبسبب السفه في الانفاق العام، والفشل المدوِّي في ضبط ثقوب الفساد. وبدلاً من أن تُنفق مداخيل النفط في توسيع قاعدة الانتاج، وزيادته، وفي تحديث التعليم، وتحسين سائر الخدمات، وتوسيع فرص العمل للشباب، أُنفقت الأموال على السلاح، وعلى الأمن، وعلى شراء المعارضين، وعلى استرضاء الأحزاب والأفراد بالمناصب الدستورية، التي بقيت تتوسع بلا حدود. كما أُنفقت على الأثاث والسيارات، والمباني، والسفر بلا سبب وجيه، وعلى كافة وجوه رفاه المسؤولين. وفي هذا الجو، نشأت منظومة الفساد وترعرعت وأصبحت ماردًا لا سبيل لكبح جماحه. وهي منظومة لا شبيه لها في تاريخ السودان، ولا نظير لها في الدول الأخرى.
في ذات الوقت، تُركت السككُ الحديدية، ومشروع الجزيرة، والخطوط الجوية والبحرية، والنقل النهري، وكامل منظومة الصناعات الوطنية، والمصالح الحكومية المهمة، كالنقل الميكانيكي، لتنهار، من أجل أن يأتي المتنفذون، ويشترونها بثمنٍ بخس. ونشهد الآن صحوةً متأخرةً لبناء السكك الحديدية من جديد. وهي صحوة مشكوكٌ في أصالة دوافعها، وصدقيتها. جرى تجديد خط عطبرة الخرطوم. وجرى مؤخرًا تجديد خط الخرطوم، ود مدني، الذي يبلغ طوله المائتي كيلومتر، ليعمل عليه قطاران، لا ينقلان، طيلة اليوم أكثر من ألفي راكب. وهذا العدد من الركاب يمكن تقله في عشرين رحلة من رحلات البصات! فهل يستحق نقل ألفي راكب في اليوم بين الخرطوم وود مدني إنشاء خط حديدي بطول مائتي كيلومتر، وإنشاء خمس محطات للركاب؟ يضاف إلى ذلك أن الرحلة بهذا القطار السلحفاة، تستغرق أربع ساعات، في حين تستغرق رحلة البص ثلاث ساعات. وكلنا يذكر أن قطار الوحدة الذي عمل على هذا الخط، في سبعينات القرن الماضي، كان يقطع هذا المشوار في ثلاث ساعات! ولكن ماذا نقول في الانقاذ وإبداعاتها؟ فها هي تأتي بقطارٍ، بعد أكثر من أربعين عامًا من قطار الوحدة المنقرض، ليقطع المسافة في أربع ساعات، بدلا عن ثلاثًا! تصل سرعة القطارات في العالم الآن، إلى أكثر من 300 كيلومتر في الساعة، وتعود بنا الإنقاذ إلى سرعة قاطرات البخار، وجورج ستيفينسن. باختصار شديد، قطار الخرطوم مدني وبالعكس، ألعوبة من ألاعيب الانقاذ، وما أكثرها.
أما الانجازات الأخرى الهزيلة، التي ثقب بها الإعلام الحكومي آذاننا، فقد تلخّصت، في طرق برية غير مزدوجة، تحصد أرواح الناس صباح مساء. وسدود بُنيت بالقروض، وجسور على النيل، في العاصمة القومية، سيئة التنفيذ، بُنيت بالقروض. ومطار دولي جديد، جرى توقيع قروضه ثلاث مرات، مع جهات أجنبية مختلفة، ولم يُنجز فيه غير سورٍ خارجي، وشارع ظلط. وقد استغرق ذلك مدى زمنيًا جاوز العشر سنوات. يضاف إلى ذلك، نشاهد ازديادًا في أعمدةٍ إضاءة الشوارع، مما تقوم به المحليات. وهي أعمدةٌ طويلة، نحيلة، تثنيها الرياح، من فرط نحولها. وحين تنثني، لا يُعاد إصلاحها، بل، ولا تستبدل مصابيحها حين تحترق. وفي ذات الوقت، نشاهد قذارةً في المدن الثلاث، نادرة الشبيه.
أما شوارع الأسفلت، في المدن، فلا يوجد في العالم ما يماثلها في الارتجال ورداءة الجودة. فـ “الكلفتة” في تنفيذها، والسرقة عن طريق التلاعب في المواصفات، فلا تخفى على عين من له أدنى خبرة عامة بكيفية تعبيد الطرق. يُفرش الأسفلت على أرضية غير مضغوطة، كما يجب. ويجري تنفيذ الطريق، بلا نظامٍ لتصريف مياه الأمطار، وحين تهطل الأمطار تتسرب المياه تحت طبقة الأسفلت، فتضغط عل الأسفلت إطار السيارات، ذات الحمولات الضخمة، فيتموج الأسفلت وينبعج، وتحدث فيه حفر، ومجاري عميقة، وينتهي الشارع في عام، أو عامين، على الأكثر.
أما الشوارع الداخلية في الأحياء، فيدفنها التراب، في أقل من عام، ولا يبقى منها سوى ما لا يزيد عن المتر بارزًا للعيان. وسرعان ما يختفي هذا المتر المتبقي من الأسفلت، تحت التراب. وكل شيء فيما جرى من “كلفتات”، وارتجالات، في السنوات التسع وعشرين الماضية، يقول، وبأعلى صوت، هذه ليست إنجازات، وإنما هي عطاءات تمنح لأفرادٍ منتقين، وتُرسى على شركاتٍ غير مؤهلة، ومقاولين يُراد لهم أن يثروا من المال العام، لءقوموا بأعمال انشائية هندسية، لا يمكن أن يجيزها استشاريون مستقلون، لأنها لا ترقى لأدنى مستويات المعايير والمواصفات المتبعة دوليًا، في مجال الانشاءات الهندسية.
بقي الرئيس البشير في الحكم قرابة الثلاث عقود، ولم يلق بالا قط لأثر السياسات العشوائية للإنقاذ، والاختلالات الهيكلية، التي جعلت الملايين من سكان الريف يهجرون الريف، ويتجهون إلى العاصمة، وغيرها من المدن الكبرى. ويعيش في الخرطوم الآن ثلث سكان القطر تقريبًا. تركَّز التعليم وتركزت الخدمات الصحية، وتركزت مظاهر الحياة الحديثة في الخرطوم، فأصبحت بؤرةً جاذبةً للكل. والآن تختنق حركة المرور في الخرطوم، بمتوالية هندسية. وفي أعوامٍ قليلةٍ، سيصبح التحرك من نقطة، إلى نقطة أخرى، داخل العاصمة المثلثة، معضلةً حقيقية، إن لم نقل أمرًا أقرب إلى الاستحالة. ولا أظن أن حكومة الانقاذ تملك الآن، من القدرة المالية، ومن الخيال الانشائي، ومن الشفافية، ما يجعلها قادرة على فك هذا الاختناق، الذي يتفاقم بما يشبه الانفجار.
ضاعت على القطر وعلى أهله، ثلاثون عامًا غالية، وأهدرت ثروات طائلة، وقذفت البلاد بالكثير من أفضل متعلميها خارج الحدود. فهل يستحي، هونًا ما، من يحدثوننا عن التمديد لرئاسة الرئيس البشير؟ بل هل يستحي، من يحدثوننا عن استمرار الإنقاذ نفسها؟ فالبشير والانقاذ شيءٌ واحد. ولا عندي عبرة بصرخة د. أمين حسن عمر، المتأخرة جدًا، ضد ترشح الرئيس البشير. فهي صرخة إعلامية من داخل السلة ذاتها، وهي، في أفضل حالتها، مجرد صدى باهت، لصرخة أطلقها قبله د. غازي صلاح الدين. ويمكن أن نقول للدكتور أمين حسن عمر، أن ما أعطاه حق تسنم وظائف تنفيذية عليا في الدولة، على مدى يزيد عن ربع القرن، يمنح الرئيس البشير حق البقاء في الرئاسة، لقرنٍ كامل.
فيا أهل الانقاذ، مارسوا قليلا من التأمل العميق، ومحاسبة الذات، وأجلسوا على الأرض، وفككوا، طوعًا، حكومتكم الأمنية المهترئة، العاجزة، قبل فوات الأوان. فالطوفان، الآن، على الأبواب. وهو طوفان لن يبقي ولن يذر. فالبلاد بأمس الحاجة إلى نقلةٍ كاملةٍ، صوب وحدةٍ وطنية حقيقية، لم يسبق أن تحققت لها قط. كما هي في حاجة ماسة جدا، إلى حوكمةٍ رشيدةٍ، تحفظ عظم البلاد، قبل أن يكسره الطامعون، الواقفون، الآن، على خط الحدود. لقد أصم رغد العيش آذانكم، وأضر طول الجِمام بأجسادكم وعقولكم، فلم تعودوا ترون مقدم الخطر سوى من جهة الشعب، ويا لها من غفلةٍ مطبقة.
لقد أصبحت هذه البلاد الكنز، بالغة الثراء، بإمكانياتها، موضوعة الآن على موائد البحث في دوائر الاستراتيجيات الإقليمية، والدولية، بغرض محو شعبها من على وجه الأرض، وإلحاقها بمنظومة إقليمية جديدة آخذة في التشكل. هناك أموالٌ طائلة، في أيدي جهلة أغرار، وقد أخذت هذه الموال تغذي أحلامًا إمبراطوريةً جامحة. لا مكان لهذه الأموال، ولا لتلك الأحلام، سوى في السودان؛ هذا البلد الكنز. فيا جماعة الانقاذ: احملوا ما سرقتم منا، وارحلو، فقد علمنا، علم اليقين، أن أموالكم هي مبلغ همكم. ارحلوا، حتى يتسنى لنا أن ندافع عن أرض أجدادنا دفاع الشرفاء، كما فلعنا في مختلف منعطفات التاريخ. فالتجديد للرئيس البشير، أو للانقاذ، يعني ضياع السودان، إلى الأبد. (للحديث بقية)