التظاهرات التي شهدتها عدد من الشوارع بالعاصمة السودانية، الخرطوم، أمس الثلاثاء (16 يناير) ثم دعوة المعارضة لحشد جماهيري، اليوم، الأربعاء، 17 يناير 2018 شكلت، وتشكل (في سياق الحراك الجماهيري المتواصل) حدثاً كبيراً، وحيوياً.
هذا الحراك أرسل ويرسل ثلاث رسائل مهمة، إلى النظام الحاكم ومن يساند سياساته ويغض النظر عن أخطائه وخطاياه وجرائمه، وإلى قوى المعارضة، وأيضاً إلى دول الإقليم والعالم، كما تعكس هذه التفاعلات درساً مهماً للداخل والخارج.
الرسالة الأولى، عنوانها، أن التظاهرات وجهت لطمة جديدة، وقوية، ومدوًية لنظام الحكم القمعي، الفاشل، والعنوان الثاني يكمن في أهمية انتقال القوى السياسية المدنية والمسلحة من مرحلة العمل الفردي، ومن إطار ” الأنا” إلى مربع جديد، أما العنوان الثالث فهو يعني دول المنطقة والدول الديمقراطية في العالم.
الرسالة الأولى للتظاهرات فضحت على نطاق المنطقة والعالم نهج القهر، الذي يمارسه، بشراسة، نظام الرئيس عمر البشير، على رغم أن الحزب الشيوعي، الذي دعا إلى الموكب السلمي ، للتعبير عن رفض سياسة تجويع المواطن، ورفض موازنة عام 2018 ” الكارثية”، كان طلب من الحكومة ترخيصاً للموكب، لكن السلطات لا تحترم حتى قوانينها ودستورها المؤقت، فتُمزقه كل يوم، وترمي به في سلة المهملات.
في هذا السياق جاء القمع الحكومي للمتظاهرين، باستخدام الضرب والغاز المسيل للدموع، مع حملة اعتقالات، شملت سياسيين ونشطاء وصحافيين سودانيين، بينهم من يعمل في ” بي بي سي” وقناة ” العربية” و رويترز و “الفرنسية”مثلاً.
هذا أكد مجدداً رسوخ عقلية الاستبداد والعزل والإقصاء وعدم احترام حقوق المواطنة، وحرية العمل الصحافي، حيث تتم باستمرار عمليات مصادرة حرية التعبير، وتوقيف الصحافيين، كيلا يبثوا وقائع مشاهداتهم إلى العالم، وأيضاً مصادرة صحف سودانية بعد الطباعة، أو منعها من الصدور.
هذا السلوك لا نستغربه من نظام، قتل وشرًد وسجن وعذًب واستباح المال العام، ولهذا كله لن يقبل أن يهتف متظاهرون كما جرى أمس ضد ” الغلاء” و” الحرامية” (لصوص المال) وقد كشفت تقارير المراجع العام، وتقارير دولية، حجم ونوع “بعض” الجرائم في هذا الشأن، الأمر وضع البلد في موقع بارز ضمن قائمة الدول التي ينتشر في أوصالها الفساد (المالي).
الرسالة الثانية تجسدت في نجاح دعوة الحزب الشيوعي السوداني، إلى الموكب، بدعم جماعي من قوى المعارضة، وحتى من ” أشخاص ” ينتمون إلى أحزاب مشاركة في الحكم، أو “إسلاميين” وطنيين، لا يقبلون الظلم، واكتشفوا زيف الشعارات التي يرفعها النظام.
قوى المعارضة المدنية والمسلحة انطلقت إلى آفاق وفضاءات العمل الجماعي، السلمي، الذي تجلى في صور باهية عكستها تظاهرات ” الثلاثاء”، وعبًرت عنها بشكل فوري دعوة “قوى المعارضة” إلى الشعب السوداني، لكي يحتشد بالناس ” ميدان المدرسة الأهلية” بأمدرمان (جوار بيت الزعيم التاريخي إسماعيل الأزهري) ، عصر اليوم الأربعاء 17 يناير 2018.
نحيي أصحاب مبادرة الأولى (الحزب الشيوعي السوداني) ومن صنعوها، كما نحيي مواقف القوى السياسية والمنظمات الحقوقية و النقابات والروابط المهنية، داخل السودان وخارجه، التي احتضنت الدعوة، وشاركت في صنع الحدث بفاعلية، ما يعني أن السودانيين قادرون على صناعة الفجر الجميل، إذا توحدت صفوفهم، وتناسقت خطاهم، وانسجمت أفكارهم وبرامجهم، والتفوا جميعا حول راية الحرية والعدالة، والمساواة، وحقوق الإنسان السوداني، وكرامته.
في هذا السياق نرى أن القوى السياسية والمنظمات والنشطاء والمواطنين الذين قالوا ” لا للغلاء” و “لا للحرامية” وهتفوا ” حرية، حرية”، لخصوا مواجعهم، وكشفوا أبعاد تطلعاتهم، فهذا الهتاف يعني أن نظام البشير فشل، على مدى 29 عاماً، في توفير الحياة الكريمة للسودانيين، وهتافهم يعني أنه حانت ساعة الرحيل، ويجب أن “يرحل”.
الحراك يدعوه إلى الرحيل، بعدما فشلت سياساته الرعناء، التي أشعلت الحروب، كما جرى في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، وأشاعت الفساد ( المالي والإداري) على أوسع نطاق، ودمرت اقتصاد البلد، ومزقته إلى دولتين.
من أروع الهتافات التي سمعناها ورددها المتظاهرون ” سلمية، سلمية”، هذا الهتاف مهم وحيوي ويعكس أصالة شعب السودان، وتاريخه الناصع، وقد أسقط بالنهج نفسه نظامين عسكريين في 21 أكتوبر 1964، وفي 6 أبريل 1985، أي في زمن قديم، سجل فيه السودانيون السبق والريادة في عالم الانتفاضات الشعبية، وفي زمن لا وجود فيه لوسائل الاعلام الجديد (فيسبوك وتويتر وواتساب الخ).
نحيي التظاهرات السلمية، وندعو إلى مواصلة هذا النهج الحضاري، وهو نهج سيسعى النظام إلى ضربه، لكن على أحباب الوطن أن يتمسكوا بقيم التظاهر السلمي، وقد ضربوا أروع الأمثلة في هذا الجانب أمس، وندعوهم إلى التمسك بهذا السلوك، اليوم الأربعاء، وفي حراكهم المستقبلي.
حراك الشارع السوداني أكد ما رددناه هنا غير مرة، وهو أن ثقتنا بقدرات شعبنا في إحداث التغيير راسخة، ولا تهتز، ولا حدود لها، مهما استطال الليل، ونرى أن عهد الاستبداد إلى زوال، طال الزمن أو قصر.
أما الرسالة الثالثة النابعة من هذا الحراك، فهي تدعو دول المنطقة، وخصوصاً دول الخليج، ودول العالم الكبرى، إلى إعادة قراءة التطورات السودانية في ضوء أحداث الساعة، وما يعنيه تواصل الحراك الشعبي، الرافض للنظام.
الرسالة الثالثة تستمد مضمونها من أجواء التظاهر، وتدعو إلى مساندة الشعب السوداني بالموقف الواضح، والكلمة الصادقة، والإعلام الحر، وهنا تبدو أهمية مواقف وأدوار الدول الديمقراطية (أميركا ودول أوروبا) ، ونطالبها بأن ترفع صوتها، دعماً لحقوق شعبنا، في الحرية، والديمقراطية، والعيش الكريم، بعدما دمر نظام البشير، الاقتصاد، والبشر، والحجر.
لن نمل من تذكير الجميع بأن شعبنا أظهر وسيُظهر رغبة جارفة في سبيل التغيير الشامل، بعدما سئم وضجر من حياة البؤس قرابة ثلاثة عقود، هي فترة جلوس الرئيس البشير على كرسي الحكم.
لن نمل أيضاً التذكير بأن البشير استولى على الحكم، بانقلاب عسكري، نفذته “الجبهة القومية الإسلامية (مرجعيتها إخوانية) في الثلاثين من يونيو 1989، لأنه يحاول دائماً أن يحدثنا عن ” الانتخابات” و” دعم الشرعية” وهو أطاح بحكومة منتخبة.
“الجبهة القومية الإسلامية” كانت تتمتع بوجود قانوني في نظام ديمقراطي منتخب، وكانت جزء منه، بوجود فاعل في البرلمان، لكنها أسقطت نظام التعددية، الذي يصون حقوق الجميع، بالتآمر، وبغباء سياسي، لا نظير له.
هذا درس للداخل والخارج..
modalmakki@hotmail.com