الشخصية الثانية التي أدت دوراً مهماً في تكوين جماعة الإخوان المسلمين هي عبدالقادر عودة الذي جاء عمله متمماً ومكملاً لعمل حسن البنا، إذ كان يقوم بعمليات التنظير والتأصيل للأفكار الأساسية التي كان حسن البنا يلقي بها في الساحة.
واذا كان حسن البنا اتخذ من العودة إلى الشريعة الإسلامية الركن الأساسي في بناء دعوه الإخوان، فقد جاء عبد القادر عودة ليؤصل لهذه الفكرة في العقيدة الإخوانية، ,وليقوم بعمليات التنظير بين هذه الشريعة والتشريعات الوضعية؛ مستهدفاً من كل ذلك إقامه البرهان النظري علي أن الشريعة الإسلامية هي الأجدر بأن تكون القانون العام والخاص. ومنطق عودة في عملية التنظير هذه هو المصدر الذي تصدر عنه الشرائع، فهذا المصدر في الشريعة الإسلامية هو الله، وفي الشرائع الوضعية هو الإنسان، ويترتب على هذا المنطق عدة نتائج أوردها في كتابيه: “التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي”، أو “الإسلام أوضاعنا السياسية”.
ويذهب عودة في كتابيه المذكورين إلى أن القانون من صنع البشر، بينما الشريعة من عند الله. وعلي هذا الأساس يكون القانون عرضه للتغيير والتبديل، أي عرضه للتطور، بينما لا تكون الشريعة في حاجة إلى هذا التغيير مهما تغيرت الأوطان والأزمان.
كما يؤكد عودة أيضاً أن القانون هو قواعد مؤقتة تصنعها الجماعة -أي جماعة- لتنظيم شؤونها، وسد حاجاتها، فهي قواعد متأخرة عن الجماعة، أو هي في مستوى الجماعة اليوم، ومتخلفة عنها غداً؛ لأن القوانين لا تواكب سرعه تغيير الجماعة، أما الشريعة فقواعد وضعها الله علي سبيل الدوام لتنظيم الجماعة، فهي من المرونة والعموم، بحيث تتسع لحاجات الجماعة، مهما طالت الأزمان، وتطورت الجماعة، وتعقدت الاحتياجات.
كما ربط عودة عمليات التنظير والتأصيل لعناصر جعلها الأعمدة الأساسية في البنيان الثقافي والاقتصادي والسياسي لكل حركه في الحركات الدينية المعاصرة. وهذه العناصر هي نظريه الشورى وتقييد سلطه الحاكم وملكية المال.
وسنتطرق إلى كل عنصر من هذه العناصر الثلاثة في إيجاز غير مخل معتمدين علي كتابيه المذكورين آنفاً في إبراز وجهات النظر حول تلكم العناصر.
وفيما يتعلق بنظريه الشوري يقرر عودة أن الإسلام لم يشرع هذه النظرية لحاجه العرب إليها وقتذاك، إذ إنهم لم يكونوا -من وجهة نظره- من التقدم، ليكونوا في حاجه إلى مثل هذه النظرية، وانما قرر الإسلام الشورى لتكميل الشريعة، والارتقاء بمستوي الجماعة، وحمل افرادها علي التفكير في المسائل العامة، والاشتراك في الحكم بطريقه غير مباشرة والسيطرة على الحكام ومراقبتهم.
ونظريه الشورى كما تتبدي للذهن هي نظرية عامة؛ لذلك يعتمد عبدالقادر عودة على الآيه القرآنية “…. وشاورهم في الأمر” لتبيان كيفيه ممارسه الشورى، فهو يجنح إلى تفسير الأمر باعتباره أمر الدنيا لا أمر الدين، وهو الأمر الذي نصت عليه آية أخري “هي قوله تعالى: “وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا”، وأمور الأمن والخوف بداهة هي أمور الحياة الدني، وكانت ولا تزال من مسؤوليات السلطة التنفيذية في الحكومات. والذين يستشارون طبقاً لعبدا لقادر عودة هم أولو الأمر بمعنى الذين يولون أمور الناس من أصحاب الخبرة والتجربة، أما كيف يستشار هؤلاء، فلم تضع الشريعة لذلك نظاماً معيناً، وتركت الأمر للناس يحددونه بما يناسب ظروف حياتهم.
وفيما يتعلق بتقييد سلطه الحاكم يقرر عبدالقادر عودة أن الشريعة الإسلامية سبقت القوانين الوضعية في ذلك، وان سلطة الحاكم قبل نزول الشريعة كانت سلطة مطلقة لا قيد عليها، وكانت علاقة الحاكم والمحكومين قائمه على القوه المحضة، ومن شرعنة القوة كان الحاكم يستمد السلطة، ثم جاءت الشريعة الإسلامية فاستبدلت بتلك الاوضاع أوضاعاً أخرى، إذ جعلت أساس العلاقة بين الحاكم والمحكوم تحقيق مصلحة الجماعة، لا قوة الحاكمين، ولا ضعف المحكومين. وجعلت للجماعة حق اختيار الحاكم الذي يرعى مصالحها، ويحافظ عليها، وبذلك جعلت لسلطة الحاكم حدوداً، إن تعداها وخرج عليها، كان عملاً باطلاً.
إن مسؤوليه الحاكم عند عبد القادر عودة هي المسؤولية التي جددها الماوردي في كتابه الاحكام السلطانية. فهو يري أن مسؤولية الحاكم وسلطته في الشريعة الإسلامية مقيدتان. فالحاكم شأنه شأن أي إنسان آخر عندما يخطئ، فعليه إن يتحمل التبعات، ويستوي في ذلك أن يكون الإنسان حاكماً أو محكوماً. كما يري أنه ليس للحاكم الذي لا يقوم بالتزاماته تجاه شعبه أن يطلب من الشعب السمع والطاعة.
وهذا في راية متفرع عن طبيعة الحكم في الإسلام. فمبدأ الحكم أنه استخلاف في الأرض لإقامه حكم الله فيها، وهذه الحكومة -وإن كانت حكومة شورى أساسها القران-تختلف عن الحكومات الأخرى الدينية الثيوقراطية، والحكومات الديمقراطية.
هي ليست ثيوقراطية من حيث أنها لا تستمد السلطة من الله، وإنما من الجماعة الإسلامية، كما انها لا تصل إلى الحكم، ولا تنزل عنه إلا برأي الجماعة، فهي مقيدة بالجماعة تقييداً كاملاً. وهي تختلف عن الحكومات الديمقراطية رغم اتفاقها الظاهري في مساله اختيار الحاكم، وفي الحرص على تحقيق العدالة والحرية والمساواة.
تختلف عن الديمقراطيات من حيث إن نظام الحكم في الإسلام يقيد الحاكمين والمحكومين بما أنزل الله. إنه يرد شؤون الحياة ومسائل الاختلاف البشري الي موازين علويه تسمو على الأفق البشري الذي هو مصدر الديمقراطيات. إن المصدر في الديمقراطيات هو ما يراه الناس كل بحسب أفقه، وكل بقدر مصالحه.
وأخيراً يقرر عبد القادر عودة أن الحكم والسلطة لا يورثان في الإسلام، وأن نظام الوراثة في الخلافة الإسلامية قام بعد إن لعبت الأهواء دورها، وأحالت الخلافة إلى ملك عضوض.
وأيضاً في هذا المقام يشير عودة اشاره لها دلالاتها في بنية وعي وخطاب جماعة الإسلام السياسي، وهي أن الشريعة تدعو إلى وحده الأمة الإسلامية في مشارق الارض ومغاربها، وان مفهوم الأمة الواحدة يشتمل على مفهوم الدولة الواحدة، والإمام الواحد، والجنسية الواحدة، وبذلك يؤكد وحده عودة أن الدولة الإسلامية تكون وحدة سياسية وقانونية، لا تتعدد فيها الحكومات، ولا تختلف فيها الأحكام باختلاف الجهات.
ويرتب عودة على ذلك حكماً شرعياً مضغه الفقهاء من قبل، وهو قسمة العالم الي دار إسلام وعدل، ودار كفر وحرب، وهذا أساس شرعه العنف، وقيام الأصوليات الدينية المتطرفة بمرجعياتها المتجبرة التي لا تحض إلا على مبدأ كراهية الآخر المغاير.