كثير من السودانيين يتساءلون كلما ضاق بهم الحال وطالت بهم ويلات المعاناة: لماذا لم تهنأ الديمقراطية في السودان وتستقر ؟ ولماذا لم يهنأ شعب السودان بها لتبلغ دورتين متواصلتين حتى بأعراض التسنين التي تلم بها؟ ولماذا يطول عمر الشموليات التي تولد بأسنانها لعقود لتبلغ هذه الأخيرة على سبيل المثال ثماني دورات رئاسية بالمقياس الانتخابي والدستوري الأميركي، دون أن يكل الحاكم، أو يمل من طول الجلوس، والتشبث بكرسي تتقاذفه الأزمات وأسباب عدم الاستقرار ،ولايزال غثاء النخبة غير الديمقراطية يزينون للحاكم المزمن أسباب البقاء لا حباً فيه بل حباً في أنفسهم وامتيازاتهم .
هي نخبة بقدرما أنها نالت من تعليم بأموال الشعب السوداني الذي لم يضن بها عليهم إلا انها لم تنصره يوماً على ظلم لحق به. لقد حظي نظام عبود الذي يؤرخ له بالشمولية الأولى بنخبة منهم أي من المثقفين والمتعلمين الذين ساندوه وآزروه، ولم يأبهوا يومها لأهمية الديمقراطية، أو مطلب الحريات الأساسية التي لم يأمنوا بها أصلا فأصبحوا بطانة للنظام، وعوناً له، واتخذوا من سلطة القهر ملاذاً آمناً في مواجهة مطلب الحرية لشعب بأسره، حتى أطيحت الشمولية بثورة أكتوبر الشعبية عام 64 ولم يجد بعض هؤلاء حرجا في أنفسهم استغلالاً لمناخ الحرية والديمقراطية الذي وفرته الثورة لينالوا أيضا دون حياء حظاً من النظام الجديد لتسامح السودانيين، وغياب إعمال القانون، وتغييبه بفعل العاطفة ، رغم أن هناك من يقول إن نظام عبود يحتل المركز الأول في كونه أفضل الأنظمة العسكرية السيئة التي شهدها السودان.
في عام 69 تدافعت نفس هذه النخبة المتعلمة والمثقفة من غير المؤمنين بالديمقراطية والحرية والكرامة لإنسان السودان إلا من رحم ربي وتحلقوا حول نظام نميري، وتباروا في تمجيد النظام المايوي، ودعم وجوده، والدفاع عن باطله، والعمل على بقائه بكل الطرق رغم تصفيته معارضيه وخصومه السياسيين بدم بارد وساخن في وضح النهار، دون أن يرتد لهم طرف.
وكانوا له سنداً وسدنة في تقلباته من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين رفيقاً للينين وإماماً بآمين ، فكان نميري القائد والرائد والعائد وما دونه في خانة العمالة والارتزاق راضين بأنعمه عليهم، حتى هبت انتفاضة رجب أبريل الشعبية لتطيح نظام الحزب الواحد الشمولي بكل تطوراته وما هي إلا بضعة أشهر هدأت فيها العاصفة حتى عادت ذات النخبة من المتعلمين والمثقفين الانتهازيين الذين دافعوا عن نظام مايو حتى مساء الخامس من أبريل عام 86 لتتسيد المشهد الثوري الجديد، وتعتلى ظهور بعض الأحزاب دون حرج أو خجل، رغم أن كل علاقتها بالديمقراطية ومناخ الحريات الذي استباحته من قبل أنه يتيح لها العودة والظهور دون محاسبة أو ملاحقة مستفيدة من الدستور الديمقراطي الذي لا تؤمن به لغيرها في ظل الشموليات وأنظمة القمع التي تهوى وترتهن .
وفي ثالث اكبر هزيمة انقلابية ضد الديمقراطية ومناخ الحريات عام 89 بعد ثلاث سنوات فقط من ثورة أبريل الشعبية وفي أسوأ شمولية انقلابية عقائدية شهدها السودان عادت هذه النخبة الانتهازية من جديد بعد أن بدلت ثيابها، وأطلقت لحاها، وغيرت شعاراتها لملائمة الحقبة الجديدة الأكثر تنظيماً والأقل تسامحا مع خصومها لتأخذ مكانها دون حرج في كنف الكفيل العقائدي الجديد الذي أجاد استخدامها في جميع مراحل سلطته فاتحا لها أبواب الفساد لتصبح رهينة في يده، فكانت نصيراً للقمع وتكميم الأفواه ومصادرة الحريات بعد أن اتسع حجمها لطول عمر شمولية الإنقاذ وهيمنة حزبها الحاكم الذي برع في ابتكار كافة وسائل الحماية والبقاء، رغم أن المحصلة تمثلت بعد ثلاثة عقود من الحكم المطلق والهيمنة في حقيقتين لا ثالث لهما ، هما الفشل السياسي والاقتصادي واتساع دائرة الفساد المحمي بالقانون والمفسدين المحميين بتغييب الأدلة والبراهين مقارنة بدول أخرى حققت طفرات تنموية هائلة في ماليزيا وتركيا وغيرها .
ومماتقدم يبدو واضحاً وجلياً أن النخبة المعادية للديمقراطية والحريات من المثقفين والمتعلمين السابقين واللاحقين، وبعض فاقد الأحزاب السياسي ومجموعات الطفيليين من شرائح المجتمع من الذين لايخالجهم أدنى شك في أن النظم الديمقراطية تعرقل مكاسبهم الذاتية، وتعيق طموحاتهم الشخصية، وإن كان على حساب شعبهم.
شكل جميعهم مظلة وآقية لكل الشموليات ولأكثرها ذكاءً واستمرارية وهي شمولية حزب المؤتمر الوطني الحاكم حالياً، ويكفي فقط أن تنظر إلى شاشات وسائل الاعلام المحلية المختلفة لتتعرف تلك السمات ولتدرك أن الإجابة عن سؤال استطالة الأزمة وانتشار جرثومة الشمولية ليس فقط بسبب الإجراءات القمعية المباشرة من قبل السلطة الحاكمة بكل أجهزتها، بل انه أيضاً بسبب اتساع تلك النخبة وتمددها في نسيج الوطن وتفاصيله، وبالتالي اتساع رقعة الفساد السياسي والاقتصادي الذي تشكل هذه النخبة غزله وسداه ، فالقضية قد أصبحت أكبر من مجرد نظام تدعمه مرجعية حزبية تباينت وتفرقت جماعتها أيدي سبأ بل هي في سيادة هذه الطبقة التي اتسعت بحجم اتساع دائرة الفساد، وتغلغلت في مفاصل النظام نفسه لتكون أكثر قدرة على حماية مكاسبها ومصالحها .
أزمة السودان هي في وجود هذه النخبة المخلة بشرف الوطنية والانتماء للوطن، وهي أيضاً في تكاثر هذه الشريحة الفاسدة التي تجيد معاقرة الأنظمة الشمولية يميناً ويساراً .
ملحوظة أخيرة : بعد ثلاثين عام من تقنين الفساد بفضل مهارات هذ النخبة لن يجد أحد دليلاً قانونياً وآحداً على قضية فساد اقتصادي وآحدة . وسوف تكون النتيجة لا يوجد فساد في السودان، وهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين!