فجأةً، وجدتُ نفسي محاطاً بباقةٍ مورَّدة من الأخبار السارة، والمدهشة، والداعية إلي العجب، وذلك عندما أعلنت ولاية الخرطوم، وقبلها ولاية شمال كردفان نتائج شهادة مرحلة الأساس لهذا العام.. وجدتُ نفسي أعرفُ -شخصياً- علي الأقل أربعةً من المتفوقين الأوائل، والمتفوقات وهذا مصدر عجبي وإندهاشي..لأنني، وربما لما يقارب العشرين عاماً الآخيرة، لم أتعرف -شخصياً- علي أيٍ من العشرة الأوائل ولا العشرين الأوائل ولا حتي الخمسين، في أيٍ من امتحانات المراحل الثلاث جميعها.
والسبب أن أغلب الذين أعرفهم، وأعرف أهاليهم، من التلاميذ والطلاب هم من مناطق نائية، ومهمشة، ومنعزلة، وموبوءة بالحروب والنزوح. وبطبيعة الحال فأبناء هؤلاء (كتَّر خيرهم) لو جلسوا للدرس ابتداءً، (وكتَّر خيرهم أكثر) لو استطاعوا إحراز مجرد درجات النجاح لا غير.
إيمان البشير
أما هذا العام فقد حلّقت بنا ابنة شقيقتي فاطمة إدريس عبد السلام في آفاق النجاح الاستثنائي..فقصة ابنتها إيمان البشير الصادق البشير هي قصة الاستثناء نفسه..فحين وُلدت كانت مجاميع الضنك، والضيق (والابتلاء) قد كتمت علي السودان كلَّ أنفاسه، وملأت جوانبه، وسدت منافذه، وتهاوت المستشفيات علي عروشها، وانعدم فيها البنسلين (والكوماكين) والڤيتامين، وحتي الأكسجين..وُلدت إيمان مكتملة النمو مع توأمتها، وما كان ينقصهما إلا (شفطتان تلاتة) من الأكسجين، ولا شيء غيره..ولكن.. لم يكن ساعتئذٍ في مستشفي الأبيض كلها، أسطوانةٌ واحدة للأكسجين..والنتيجة الحتمية، أن التوأم الأخرى صَعُب عليها أن تبقي علي ظهر الدنيا بلا نفس ففضَّلت أن تنسحب في هدوء، وربما في أقل من نصف ساعة من ولادتها، لتترك توأمتها إيمان، التي عاشت بعناد، ومقاومة، واستبسال، برغم الظروف غير المواتية، وغير المُرحِّبة، ومنها عدم الأكسجين !!
عندما أكملت إيمان الصف الثالث، رأت أمُّها -وهي معلّمة- أن ابنتها تتقدم علي أقرانها بمسافةٍ بعيدة، نبوغاً وحجماً، ونضوجاً، فقررت أن تتجاوز بها الصف الرابع، لتحطها مباشرةً في الصف الخامس، في خطوةٍ أشفق عليها منها كل أفراد الأسرة، ما عدا أمها..ولكن إيمان تفوقت بالصف الخامس، وتبوأت المقدمة، (فطمعت) أمها مجدداً، وقررت أن تتجاوز بها الصف السابع لتضعها في الثامن بالطريقة ذاتها، ومع ذات الإشفاق من الجميع ما عداها..وكانت تقول: أنا أعرف ابنتي، وستفعلها، وقد فعلتها إيمان تماماً مثلما قالت أمها، وبتفوق عجيب..ثم، وعندما امتحنت هذا العام -وكانت تسبق أقرانها بعامين علي الأقل- أحرزت من الدرجات المزيدة، والوريفة، ما وضعها في لائحة شرف ولاية شمال كردفان، ووضعت من ثمَّ، تاجاً من فخار علي رؤوسِنا جميعاً.
وأما في الخرطوم-هذه المدينة التي تستأثر بالحكم، وباللؤم معاً، وبكل شيء- فقد (تفجفج) فيها أبناء أهلي وأصدقائي أيّما فجفجة..ولم يستعصِ عليهم من تسيُّد المقدمات فيها من شيء..
محسن المكي
• مُحسِن ابن صديقنا معتمد محلية القوز، المكي إسمعيل قادم كان من هؤلاء المتقحِّمين.. فقبل ثلاث سنوات، وعندما تم اختيار والده معتمداً لمحلية علي تماس مناطق الحرب في جنوب كردفان، أيقنت أمُّه أميرة محمد جبارة بدوي أنها في ورطة..فماذا يُنتظر من أبٍ ربما قضي هو نفسُه اليومين والثلاثة متنقلاً بين الفرقان، والوديان، والقيزان دون الرجوع إلي رئاسة محليته، دعك من أسرته في الخرطوم التي ربما زارها في الشهر مرةً واحدةً -وكان علي عجل- لرفدهم بالمصاريف لا غير..(انكربت) أميرة مثلما تنكرب (البقارية) يومَ (دواس) تتلوي عجاجته، ويتصاعدُ سحلُه وصهيلُه..وما وهِنت، ولا لانت ولا استكانت، فكانت النتيجة أن أحرز مُحسن ٢٧٨ درجةً، محتازاً علي المرتبة الثانية في ولاية الخرطوم..
رزان آدم
• ابنتنا رزان، ابنة المهندس آدم مالك أبو القاسم، فارسة وقوازية أخري، ونابغة (اتحيَّنت واتبيَّنت) في قلب مدينة الخرطوم الصاخبة..كان من أقدار والدها مهندس البترول، أن يكون هو الآخر سوَّاحاً في حقول بترول العراق، بعيداً في نواحٍ من (أعمال كركوك) وما حولها..لا يأتيهم إلا لِماماً..صحيح أنه حين يأتي تأتي معه المصاريف، ولكنه يكون معطوناً كذلك برائحة الزيت والقار ومحبتهما، ولا يلبث إلا قليلاً ثم يرجع..ولم يكن أمام حنان الأمين عبد الله مالك، أم رزان، إلا أن (تنكرب) هي الأخري، كما تنكرب بنات الرجال..ولتكون (اتنين في واحد)، وكانت المحصلة الباهرة أن أحرزت رزان المرتبة الثالثة بولاية الخرطوم، بمجموع مقداره ٢٧٧ درجة..
عمر يعقوب
• وأما عمر، ابن صديقنا طبيب الطوارئ الوارف بمدينة مكة المكرمة، الدكتور يعقوب فقير، فهو وحده دُرةٌ في عقدٍ متلألئ من البهاء والنجاح والفلاح..فأنا أعرفُ عمراً هذا (مذ أن كان غراماً في عيني أمي وأبي) علي قول الراحل سيف الدسوقي..ويا سبحان الله، أمه غادة سيد أحمد نصر الله، مثل حنان وأميرة تماماً بتمام، كان قدرُها أن تأخذ (ورعانها) وتستعرض بهمُ البحرَ غرباً، عندما كان لابد من إتخاذ قرارٍ (التغريب) المعلوم للمهاجرة السودانيين، منذ بضع سنين.. وبقي د.يعقوب بمكة رائعاً كالعادة، كثيرَ الضحك، جمَّ الوفاء، ليٌِنَ الجانب، هشَّاشاً بشَّاشاً، ومُحباً (لزيت السمسم وتوابعه).. وما كان علي غادة إلا أن (تنكرب) كما أنكرب الذين من قبلها..ويا لمرحاها غادة هذه، ويا لها من ماجدة، صامدة، زارعة وحاصدةٍ خيراً كثيراً بإذن الله..ويا ما شاء الله وتبارك الله:
√ عندما امتحن مــحمد، ابنها الأكبر بالسعودية أحرز مجموع ٩٩.٨٪ وهو الآن بالسنة النهائية بطب الرباط.
√ أخته نورا أحرزت ٢٧٥ درجةً، وكانت الخامسة علي ولاية الخرطوم، والآن رابعة بطب الجزيرة.
√ أخته روان عندما امتحنت أحرزت ٩٥.٩٪ وكانت السابعة والعشرين علي مستوي الجمهورية، والآن بطب الخرطوم.
√ أخته رزان أحرزت ٢٧٨ مثل عمر، وكانت الثانية علي ولاية الخرطوم..
√ وهذا حبيبنا عمر يعقوب فقير أيضاً يحرز ذات الدرجة ٢٧٨، مثل أخته رزان، ويحتل المرتبة الثانية بولاية الخرطوم كذلك..
أعجبني أن الولاية عندما تذيع نتائج المتفوقين أصبح مألوفاً أن يُذاع أسماء الوالدات كذلك..وحُق لأمثالِهن أن تذاع أسماؤهن..ففي كثيرٍ من الأحيان الآباء لا يمنحون أبناءهم إلا الأسماءَ (وشيئاً من سِدرٍ قليل)، وكثيراً من الهرش والدرش عندما يأتون في الإجازات.
براڤو لكلِّ أمٍ اجتهدت، وسهِرت، ورَعت، ووجَّهت، وربَّت، (وتيربت) وحصدت..