عدتُ في صيف ذاك العام من بلاد النفط تلك، بعد غياب سنواتٍ طويلة، تعرفونني جيدًا، ما كنت استبدل ببلادي بلادًا، لكن مديري فى تلك المؤسسة العريقة في العاصمة كان قريبًا لواحد من كبارات رجال الدولة وعاث فى المؤسسة فسادًا. لم يُطِقْ شرفي ولم أُطِقْ عهره، فحزمت حقائبي وهاجرت. عدتُ بعد سنوات كما قلت، أقنعني الإخوة بشراء قطعة أرض فى العاصمة. “الريف بقى خلا تب”، هكذا قال لي جدي، وهو يرسم بعصاه خطوطًا مبهمة على الأرض.
قلت له بأنني أكاد لا أعرف شيئًا عن أسعار الأراضي، فقال لي: “بكرة تسافر تقابل عمر ود بكري في أمدرمان”. وقع الاسم على مسمعي وقعًا عذبًا، فهتفتُ: “أستاذ عمر”؟. ضحك جدي، وقال وهو يصلح من وضع طاقيته على رأسه الأشيب: “يا هو زاتو. بساعدك تب في موضوع الأرض”. قلتُ بدهشةٍ: “وما علاقته بالأراضي؟ هل ترك التربية والتعليم؟”. ضحك جدي، ثم قال: “بكرة بحكو ليك قصة أستاذ عمر مع عثمان ود محمد علي”.
لم يزِد جدي شيئًا على ذلك، ولم أُلِح عليه، فهو حين يغمض عينيه، وتبدأ أصابعه فى مداعبة مسبحته الطويلة يدير ظهره للكون بأسره. انصرفتُ بخيالي إلى “عثمان”. أذكره جيدًا. كان من أغبى الطلاب في مدرستنا، وكان يقضي فى الفصل الواحد زهاء الثلاثة أعوام. ثم ما لبثتُ أن قمت أمازح جدتي و أمي.
بعد يومين، سافرتُ إلى الخرطوم في بصٌ فخمُ بمكيفٍ ومقاعد وثيرة. علقتُ مخاطبًا جاري الغارق في جريدته بأن المواصلات تحسنت في بلادي، فأنزل نظارته إلى منتصف وجهه وقال في ضجرٍ: “طبعا؛ أليست بصات مدير المحلية؟”. لم تشجعني إجابته المبتسرة على الثرثرة معه، فانصرفتُ بوجهي إلى النظر عبر النافذة. لم تُتَحْ لي حين جئت من المطار قبل يومين فرصة لتأمل الناس والأشياء، فقد وصلتُ ليلاً. قضيتُ اليومين الأولين في الركض من أقصى القرية إلى أقصاها مهنئًا و معزيًا. مات خلقٌ كثر، وتزوج قلائل. نصف شباب القرية لم أقابلهم. لاحظتُ أن “الحيشان” قد استطالت، والأبواب الحديدية قد نُصِبت.
عندما سافرتُ إلى الخارج قبل عشرة أعوام لم يكن هناك ثمة باب يفصلنا عن جيراننا. كان هناك “نفاج” صغير أدلف عبره إلى بيوت عشرة جيران فى وقتٍ واحد. بل إنني كنت أحيانًا أقفز فوق حائط الجار، وأمازح أولاده وبناته، وأحتسى كوب شاي، ثم أعود إلى حوشنا. نظرتُ من خلال زجاج البص. الرقعة الخضراء تقلصت كثيرًا أمام سطوة اللون الرمادي. استرعى انتباهي توقف البص المتكرر، فسألتُ الكمساري عن السبب، فرد فى تأففٍ: “رسوم عبور”. قلتُ في سخريةٍ: “عبور القنال ولاَّ أيه؟”. التفت جاري صاحب الجريدة نحوي. تفرَّس في وجهى لبرهةٍ، ثم قال ساخرًا: “إنت باين من الروقة العلى خدودك وأسئلتك إنك كنت برَّة ليك فترة وجيت قريب”. هززتُ رأسي مستصوبًا حديثه، فنظر في عيني، مرةً أخرى وقال جملة غريبة لم أدرك كنهها فى تلك اللحظة.
بلغ البص العاصمة فى ساعتين ونصف الساعة تقريبًا. تلفتُ حولي في دهشة. الشوارع مكتظة بملايين البشر. استوقفني عشرات يتسولون أجرة المواصلات، وآخرون يستجدون ثمن الدواء. النساء يَفُقْن الرجال عددًا. العمارات استطالت في الفضاء، فما بال قامات الرجال انحنت إلى الأرض! التقيتُ أكثر من شابٍ من شباب قريتي، فوجدتُهم يبيعون المساويك والماء. “لماذا تركوا المشروع؟”، سألتُ جارنا محمد فيما بعد، فقال: “المشروع ما عاد بجيب همو يا صاحبي”.
عانقني أستاذ عمر في دفء لم تَنَلْ منه السنون. شدَّني إليه بعنفوانه وطيبته المعهودتين، وطفَقَتْ يده تضربني على كتفي في ترحاب. جلستُ قبالته أتأمل ملامحه السمراء فتدفقت عبارات الحنين من فمه بلا تكلفٍ، تمامًا كما يهمي المطر على الأرض. ذاك رجل معتق كالطوابي التى ظلت تحرث النيل منذ أكثر من مائة عام. لم تتغير ملامح وجهه منذ رأيته آخر مرة قبل أكثر من عشر سنوات، غير أن شعيراتٍ بيض زحفن على ليل الشعر. الجبين تغضَّن قليلاً ورسمت عليه يد الزمن خطوطها الأبدية. أما العينان فبدتا مملوءتين بشجنٍ قديم. سألتُه عن الأحوال، فقال لي بأن زوجته ما زالت تعمل معلمة في مدرسة قريبة من بيته. ابنه “مساعد” رفض الالتحاق بكلية التربية، وآثر العمل فى السوق، والتحقت ابنته “تغريد” بكلية التمريض العليا. ابتسمتُ فى شجنٍ وأنا أهتف بدهشة: “لشدَّ ما تهرول بنا السنون يا أستاذي الجليل”.
قبل أكثر من خمس وعشرين عامًا درَّسني أستاذ عمر وأنا بعد صبي أتعثر فى أثوابي فى المرحلة الابتدائية في قريتي هناك، في جزيرة كانت خضراء. ومثلما يؤمن أهل قريتي بأن ” الحفير” التى حفرها الشيخ “ود آمنة” فيها شفاء لعلل الجسد والروح ، ومثلما يزورون أضرحة “المسيد” سؤلاً للغوث إذا جفَّ الزرع والضرع أو عزَّ قدوم الولد، إذ كانوا يؤمنون بأن أستاذ عمر من معالم القرية الكبرى. يرفع ابنٌ عاقٌ صوته على أبيه فينظر إليه الأخير شذرًا ثم يقول له بحزمٍ: “بكرة بوديك لي أستاذ عمر”. حينها يطأطئ الابن وجهه إلى الأرض وإن لم يكن تلميذًا لأستاذي الأثير. يقف أحد سكان القرية أمام التاجر “أب بطنًا سِعن” المشهور بجشعه وقلة خوفه من الله والسلطان، فيقول له وهو يتذمر من تطفيفه الكيل والميزان: “أنا كنت داير اشتكيك في محكمة المدينة، لكن طالما أستاذ عمر جا، بجيب لى حقي منك تب”. حينها يعيد التاجر اللص إلى القروي المسكين ما غشه من مال.
تطارد قروية بنتها كي تقنعها بالاستحمام فتجفل الصغيرة في جزعٍ؛ لكن الأم تكف عن الركض وراء الصغيرة ثم تهتف بها: “بكرة بقول لي أستاذ عمر إنك ما دايرة تستحمي وهو بوريكي نجوم الضهر”. عندئذٍ تكف الصبية عن الركض وتجلس في منتصف “الطشت” الريفي مثلها مثل نصف الصابون الذي سيُنْحت به ظهرها المتسخ.
منذ نشأتي الأولى وجدتُه مديرًا لمدرسة القرية الوحيدة. وقتها لم تكن هناك مدرسة متوسطة أو ثانوية. بلغني أنه ظل مديرًا لتلك المدرسة منذ تأسيسها. وكلما نُقِل إلى قرية مجاورة، تغير حال مدرسة القرية، فيسقط سياجها، ويذوي نبتها، ويعود الصبية إلى ممارسة هوايتهم فى “الشخبطة” على جدران الفصول والتبول عليها من الخارج. بل إن المعلمين أنفسهم تتغير هيئتهم، فيغدون غير مهندمين البتة. حتى إذا اتصل الشيخ “ود آمنة” بالمركز مطالبًا بإعادة أستاذ عمر، تغير الحال تمامًا على نقيض ما كان عليه في غيابه. وقد عُرِف الرجل بصلابته وحبه للتعليم.
أذكر أننا حين كنا فى الصف السادس الابتدائي قام بتقسيمنا إلى مجموعات استذكار كدأبه دائمًا. تتكون كل مجموعة من خمسة طلاب تقضي الليالي فى “ديوان” أحد أفرادها. وأذكر أن أستاذ عمر كان يقضي الليل جله متنقلاً من حي إلى حي في القرية، حاملاً عصاه وبطاريته الكهربائية، متفقدًا أحوال تلك المجموعات. ولو غط َّ أحدنا في النوم، يدلق عليه أستاذ عمر ماء باردًا فيوقظه في الليل البهيم.
مضت السنون والتحقتُ بالجامعة، لكني لم أنسَ الرجل قط. وكلما عدتُ إلى القرية في إجازتي الصيفية، وجدته في قمة نشاطه مشاركًا في أفراح القرية وأتراحها. ثم حلَّتْ ليلة غريبة على البلاد والعباد قلبت الأوضاع. استيقظنا فإذا بمئذنة المسجد قد تغير شكلها، وإذا بالحفير التي كانت تشرب منها الأغنام مع البشر على مدار العام قد جفت فجأة. ذهبت النسوة إليها حاملات “جرادلهن” على رؤوسهن وهن يثرثرن في ما يعنيهن وما لا يعنيهن كدأبهن منذ بدء الكون، فإذا بالحفير مجرد حفرة فارغة فى الأرض.
غير أن التغير الأكبر حلَّ على “ود محجوب” الشهير “بقطاع الاتر”. كان “ود محجوب” يسرق البهائم من القرى المجاورة. ثم تاب من السرقة حين عنَّفه شيخنا أكثر من مرة، فتحوَّل إلى “قطَّاع أثر”. يفقد أحدهم بهيمته فيذهب إليه. يقف “ود محجوب” على رجليه وقد دبَّت الحياة في جسده النحيل والتمعت عيناه الميتتان. يبدأ بشم الجو مثل كلبٍ بوليسى مدرب ثم ينظر إلى الأرض مليًا، ويبدأ في التحرك. بعد ساعاتٍ، تعود البهيمة المفقودة ويستلمها صاحبها بعد أن يقوم بدفع ما تيسَّر من مالٍ إلى “ود محجوب”. بعد شهورٍ قليلة، اكتشف الناس أن الرجل ليس بمقتفى أثر ولا يحزنون، بل إنه يعمل مع عصابة تسرق البهائم، يدلُّهم على المراح الذى يذخر بالضأن والماعز والأبقار فتسرقه العصابة. وحين يساهم هو في إعادة ما سرق ويستلم جائزته، تنال العصابة إياها نصيبًا من الغنيمة. حكوا لي أنه ذات صباحٍ غريب وقف “ود محجوب” فجأة في منتصف السوق وطفق يعظ الناس ويحدثهم عن عذاب القبر. زعم بعض أنصاره فيما بعد أن ماء تفجرت تحت قدميه، وأن حمامة حطت على كتفه، فإذا بجلبابه الأزرق قد صار أبيض. بل ذهب بعضهم إلى القول إنه قد نبت له جناحان حلق بهما في الفضاء مثل طيور”السمبر” التي كانت تستبيح فضاءات قريتنا في بواكير الخريف. قالوا لي: إن أستاذ عمر وحده من وقف في وجه تلك الشائعات.
حدَّثتُ أستاذ عمر عن سنوات المنافي في بلاد النفط التي يموت غريبها من الوجع. فجأةً، تذكرتُ ما قاله لي جدي عن عثمان ود محمد علي. سألتُه عما حدث بينهما وعن أسباب تركه التدريس، فتنهَّد في حزنٍ غريب وسالت دمعة من عينه، ثم قال: “بعد ذاك الصباح، تغير حال البلد تمامًا يا سلمان”. لكن أغرب ما حدث هو أن عثمان غدا مسؤولاً عن التعليم في المنطقة”. فتحتُ فاهي في دهشة وقلتُ: “عثماااااااان!”. أجاب بصوتٍ خافت: “أجل، عثمان الذي كان أكثر تلاميذي غباء”. ثم استطرد أستاذ عمر في الحديث فقال: أذكر أنه بعد عامين من تولّي عثمان منصبه الرفيع ذاك لم تصرف لنا المحلية مرتباتنا لشهور بلغت الثمانية ظل خلالها المعلمون يقومون بالتدريس بلا كللٍ. ثم ذات صباحٍ اجتمعوا بي وقالوا لي بمنتهى الأدب والتحضر إنهم قرروا الدخول في إضرابٍ مفتوح إلى أن يتم صرف مستحقاتهم. تفهَّمتُ موقفهم، بل وشجعتُهم على الإضراب، ثم ذهبتُ إلى المحلية لمقابلة المعتمد. لم يكن في مكتبه. قالوا لي: إنه ذهب إلى أطراف المدينة لافتتاح متنزهٍ عائلي.
تلك الأمسية جاءني عثمان في بيتي. خاطبني بصورة لا تليق برجل في سني، ناهيك عن أني كنتُ أستاذه يومًا. اتهمني بأنني شجعتُ المعلمين على العصيان. وقبل أن أقول شيئًا، قال لي بالحرف الواحد: “لو ما اتعاونت معانا، أنا بنقلك من الحلة، بل ممكن أحيلك لي المعاش”. لم أصدق أذني فقلت لأستاذي ودمعة تسيل على خدي: “إنت؟ يحيلك إنت لي المعاش؟”. خفض أستاذ عمر رأسه لدقيقة ثم رفعها، وقال: “نظرتُ إليه لهنيهة ثم قلتُ له بالحرف الواحد: “أنا أستاذ عمر القضيت حياتي كلها فى التربية والتعليم والدرَّست حتى طوب الأرض وأشجار الطريق. أنا التلاميذي منتشرين في كل مرفق من مرافق الحياة، يجي يوم وينزلني المعاش فيهو واحد متلك؟ على الطلاق بي التلاتة ما أمسك طبشيرة في البلد دى تانى”. لا أدري لماذا تذكرتُ في تلك اللحظة جاري في البص وهو يحدق في عيني، ويقول وهو يبتسم في شحوب: “بكرة يا صديقي البلد دي النيل بهرب منها”.
قضيتُ مع أستاذ عمر يومين في بيته، ساعدني خلالهما في شراء قطعة أرض. تحول الرجل من قامة من قامات التعليم الفذة إلى مجرد سمسارٍ يقف تحت الشمس ساعاتٍ طوال لعل زبونًا يلوح في الأفق. انقضت إجازتي بسرعة. عدتُ إلى بلاد النفط مرة ثانية. بعد شهرين، اتصل بى خالي، وقال لي في صوتٍ باكٍ: “أحسن الله عزاءك يا رجل”. قلت وقلبي يغوص بين ضلوعي في جزعٍ: ” فى من يا خالي؟”، فقال: “أستاذنا الجليل عمر توفي صباح اليوم. هتفتُ فى حزنٍ ساحقٍ: “كيف؟”، فقال: إنه كان قادمًا من الخرطوم في طريقه إلى القرية ليعزي في وفاة إحدى جاراته، فاصطدمت سيارته الصغيرة بشاحنة ضخمة، ونُقل إلى المستشفى وتوفي بعد ساعاتٍ قليلة”. سقط الهاتف الجوال من يدي على الأرض. تهاويت على الكرسي كشجرة صفعتها عاصفة هوجاء، وأخذت أبكي كالأطفال. تذكرتُه ذاك الصباح وهو يشد على يدي مودعًا. قلتُ له جادًا: “يا أستاذ عمر رأيك شنو أرسل ليك تأشيرة تجي تشتغل فى الخليج شوية؟”. وقتها صمت لدقيقة بدا لى حينها، كأن قامته أضحت أكثر طولاً، وأضاء وجهه بفخرٍ غريب، وهو يقول مبتسمًا: “البلد دي يا سلمان ما بقدر أمرق منها، وماني داير تراب غير ترابها يدفنوني فيهو”.
آه منك يا زمان الجراح و الخيبة!!