يدخل القصر الرئاسي قبل أن يبلغ عقده الرابع. الرئيس الشاب الذي تحوم حوله انظار العالم كان مغموراً قبل بضعة اشهر فقط، واستطاع ان يحقق في غضون عام ما يكلّف الآخرين عمراً كاملاً. إنه امانويل ماكرون الرئيس الفرنسي الجديد، الذي صفّقت أوروبا ليلة فوزه بالانتخابات على غريمته اليمينية المتشددة مارين لوبان، الرافضة لمنظومة الاتحاد الأوروبي، وللعملة الموحدة، والمتوجسة من المهاجرين واللاجئين والحالمة بهدم مداميك سياسة الهجرة التي بنتها فرنسا على مدى عقود، اعتقاداً منها أن فرنسا يجب ان تبقى للفرنسيين الأصليين وان كل ذوي الأصول الأجنبية انتهازيون يختطفون فرص العمل ويمتصّون المساعدات الاجتماعية مغيّرين الوجه الثقافي للبلاد.
قراءة في الدلالات
فوز امانويل ماكرون يدل إذن في الدرجة الأولى على ان الجمهورية الفرنسية بما تحمله من مبادئ وقيم وتاريخ عريق لا تزال بصحة جيدة، يرفض أبناؤها بغالبيتهم مشروع اليمين المتشدد، المتقوقع على ذاته، ويأبون عزل الجمهورية الفرنسية عن محيطها الأوروبي وبالتالي تهميش دورها على الصعيد العالمي.
واذا وضعنا جانباً إشكالية مارين لوبان واليمين المتشدد، فإن وصول الشاب الوسيم امانويل ماكرون الى قصر الاليزيه برفقة زوجته بريجيت التي تكبره بربع قرن، المطلقة والأم لثلاثة ابناء والجدة لباقة من الأحفاد يحمل في طيّاته دلالات لا يستهان بها اكان على المستوى الاجتماعي او على الصعيد السياسي. فأقل ما يمكن استنتاجه هنا، التطور في المجتمع الفرنسي حيث بات يقبل برئيس يمثّله حتى وإن كان لا يعكس الصورة التقليدية للأسرة. لقد ولّى زمن شارل ديغول وزوجته التي تحضر له الحساء مساءً، وجاك شيراك وبيرناديت التي لمّت شمل العائلة وصبرت على مغامرات زوجها، او فرانسوا ميتران الذي اخفى وجود ابنة له من علاقة غير شرعية، يزورها كل مساء ويعود قبل بزوغ الفجر الى بيت زوجته كي لا يشك به أحد، فكانت هذه القصة من أكبر اسرار الدولة في عهده، كتمها حتى أواخر أيام حكمه.
اما على الصعيد السياسي فيمكن القول إن مفهوم الديمقراطية قد تطور، مع اهتراء البنية الداخلية للأحزاب التاريخية الكبرى وانهيار قدرتها على الضغط والتأثير. إنها المرة الأولى في تاريخ الجمهورية الخامسة التي يفوز فيها مرشح من خارج الحزبين المهيمنين وهو بمثابة إعلان لسقوط الازدواجية القطبية بين الحزب الجمهوري والحزب الاشتراكي. تاريخياً الفرنسيون يميلون الى اليمين المعتدل واحياناً الى اليسار الاشتراكي.
مَن كان يتخيّل ان ماكرون الذي اعلن جهارة عدم انتمائه لا لليمين ولا لليسار عند تأسيسه لحركة “ماضون قدماً” انه يمكن ان يتبوّأ يوماً سدة الرئاسة؟ ها هو حليفه فرانسوا بايرو، زعيم الوسط، والسياسي العريق سبق وأن فشل في كل مرة خاض فيها المعترك الرئاسي. صحيح ان القدَر او الحظ لعب لمصلحة ماكرون وازاح من طريقه الشخصيات المرشحة التي كانت ستظلل عليه حتما، وفسح له المجال واسعاً بعد سقوط الان جوبيه في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري، ثم بروز مسلسل فضيحة الوظائف الوهمية لزوجة المرشح الجمهوري ورئيس الحكومة الأسبق فرانسوا فيون، أضف الى ذلك قرار الرئيس فرانسوا هولاند عدم الترشح لعهدة جديدة. وأخيراً جاء وصول مارين لوبان الى الدور الثاني بمثابة فزاعة لغالبية الأحزاب الفرنسية التي وجدت نفسها مضطرة للدعوة الى التصويت لماكرون.
بغض النظر عن الحسابات الحزبية، فوز ماكرون ينذر بضرورة استحداث أساليب مغايرة للتعاطي مع الرأي العام، وهو باب يحتاج الى مفاتيح جديدة وعصرية. ففريق حملته الانتخابية يضم مجموعة من الشباب والشابات ممن لا تزيد اعمارهم عن الثلاثين، لديهم ملكة وسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيات الحديثة.
الأولويات والتحديات
فاز ايمانويل ماكرون، الرجل اللغز. فاز وعلى رأس سلّم أولوياته ترميم فرنسا داخلياً على الصعيدين السياسي والاقتصادي، وتأكيد ثباتها بل وترسيخها تحت مظلة الاتحاد الأوروبي من خلال تدعيم الثنائي الفرنسي الألماني. في المقابل بدا الرجل حذرا طوال حملته ولم يكشف عن معالم سياسته الخارجية الا القليل القليل، فعلى الرغم من التقديرات بأنه لن يخرج بشكل صارخ عن نهج سلفه فرانسوا هولاند، كونه “الأب الروحي” له في السياسة، وله الفضل الكبير في إخراجه إلى النور، غير ان ماكرون يبدو اكثر حزماً وأقل تردداً، وقد تسمح له شخصيّته بتحقيق ما لم يجرؤ عليه هولاند.
على الرغم من الغموض الذي أحاط به في العديد من الملفات والذي ساهم بشكل او بآخر بفوزه وجمع الاضداد حوله، لقد بدا جلياً عدم توافقه مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مقابل الودية مع باراك أوباما. كما ظهر واضحاً موقفه المتحفظ من روسيا فلاديمير بوتين وسياسته تجاه سوريا واكرانيا. هو يعتقد أن الحرب على الإرهاب تقتضي محاربة تنظيم داعش، منادياً بتحقيق ضربات عسكرية على اهداف محددة في سوريا لكن بالتنسيق مع الحلفاء الدوليين. كما يرى ان الاعتراف بدولة فلسطينية لن يحل الصراع مع إسرائيل، دون ان يكون واضح الموقف في هذا الشأن.
على أي حال، احداث العالم العربي لا تبدو أولوية قصوى بالنسبة له الا من خلال تداعياتها على فرنسا ثم على أوروبا، خاصة ان التهديد الإرهابي بات شأناً داخليا فرنسياً في ظل الضربات المتكررة التي وضعت البلاد تحت حال الطوارئ، كذلك ازمة اللاجئين المتدفقين بالآلاف والذين يربكون أوروبا ودولها في اعتماد سياسات مناسبة لاستقبالهم. وفرنسا لن تكون استثناءً في هذا المضمار.
صحيح ان امانويل ماكرون نجح في رهانه معتلياً كرسي الرئاسة، لكن حين تسدل الستارة وينتهي التصفيق هل سينجح الرئيس الجديد في مواجهة التحدي الأكبر المتمثل بقيادة دولة عظمى كفرنسا وخوض تجربة الحكم بنضج وحكمة واتخاذ القرارات اللازمة والموجعة احياناً كي لا يخذل مواطنيه؟ فقبل ان نراهن على مدى جرأته على قلب الطاولة، علينا ان ننتظر لمعرفة ما إذا كان سيملك القدرة على تكوين اغلبية برلمانية تحكم ام سيقع في مصيدة التعايش والشد والجذب بين الحزبين التاريخيين. هي أسابيع معدودة تفصلنا عن موعد الانتخابات التشريعية الحاسمة، يسبقها اختيار رئيس لحكومته وفريق وزاري، وهنا تكمن بداية الإجابة.