تتحدث المدائن في مهجر السعودية ومواطئ عودة الأسر العائدة قسراً في السودان حول تداعيات تلك الهجرة المعاكسة التي لا تمت لمشروع تالهجرة الطوعية المستهدفة للكفاءات المهاجرة بصلة.
قصص كثيرة وأدب ثرثار بدأت تنتجه مفكرة الفصل الأخير من اغتراب الأسر في دول الخليج العربية عموماً، والمملكة العربية السعودية خصوصاً، وأخذ يطفو على سطح الحقبة الجديدة التي جاءت في وقت كان أهل السودان يقولون لمن قضوا إجازاتهم العام الدراسي المنصرم “لا تجوا راجعين أبدا” بل “شوفوا لينا طريقة معاكم” و”البلد نار زي ما شايفين”.
وطوال العقود الخمسة الماضية من عمر الاغتراب السوداني في مهجر السعودية أصيب السودانيون بقذيفتين واحدة من هناك وواحدة من هنا، وكلاهما قراران سياديان:
الأول: عندما قرر السودان رفع الدعم عن التعليم، وأصبح أمام الأسر أن تختار بين تعليم الأبناء والبنات في السودان ودول أخرى بالدولار – وهذا ما أطال غربة كثيرين لما يفيقوا بعد من هول صدمة التعليم – وبين تجميد حلم بيت العودة إلا من رحم ربي.
الثاني: إعلان الاجراءات المالية الأخيرة بالدولة المضيفة، حيث ظل كثير من المغتربين يصورون لأنفسهم وأثناء تبادلهم تحليل المسألة خلال لقاءاتهم بالداخل ولمستقبليهم أو محدثيهم عبر وسائل التواصل في الوطن بأن الوضع الذي يتأتى من تنفيذ المقابل المالي للأسر ينسحب على كافة العوائل الأجنبية ليس من حيث سريانه، ولكن أيضاً من حيث تداعياته عليهم بالدولة المضيفة ناسين أو متناسين وجاهلين أو متجاهلين أن جاليتنا التي كنا نقول إنها تتميز من غيرها بأنها جالية اجتماعية مترابطة متكاتفة وأن المغترب المنتمي للسودان لم يبتعد بجلده من أجل نفسه فقط، وإنما أيضاً وأحياناً بالدرجة الأولى من أجل أسرته الصغيرة والممتدة، وحارته، ومنطقته، ومكان سكنه، وهذا أمر لا جدال حوله، بل امتدت “مرضة الانتماء” فشملت حزبه السياسي، وطريقته الصوفية، بل منظماته الجديدة التي ربما انتمى إليها في الاغتراب ليجد نفسه فيها تعويضاً عن الغربة، مثل: منظمة رياضية أو جمعية مهنية أو ثقافية أو اجتماعية الخ، وهنا لا بد من استحضار المساجد والخلاوي والمدارس والطرق والترع والكباري والمنشآت الطبية والهندسية التي ساهم في بنائها المغتربون، وتجاه كل تلك الانتماءات والخدمات سالفة الذكر، كان المغترب السوداني يدفع بسخاء، ويتبرع بأريحية، ويجد نفسه كثيراً في مساعدة محتاج وعملية مريض، وحفر ترعة، وبناء حائط، وبث قناة، وتجهيز محارب، وبناء مسجد، ودعم فريق، وعلاج فنان، وتأشيرة، وإيواء مهاجر جديد، اضافة إلى مجاملاته الاجتماعية، والتزاماته تجاه العمل العام بالمهجر، وعلى أساس أن مشاريعه الخاصة في الزواج، وشراء قطعة أرض، وبناء بيت هي ذات أولوية في مخيلته، ولكن ليست في تخطيطه؛ لأنها آتية لا محالة في تقديره الساذج، وربما كان خيار الزواج هو الوحيد الذي قد يحظى باهتمامه، إلى جانب الاهتمامات العامة مع تأجيل الأولويات الأخرى الى ما لا نهاية.
هذا الذي كنا نفاخر به بأنه يميزنا من الآخرين هو ذاته الذي يميز أثر الاجراءات المالية الأخيرة فينا دون سائر الجاليات التي ليس لأفرادها هم سوى برنامج الأسرة الصغيرة، ويشمل الزواج، وتأمين السكن والسيارة والأثاث اللازم قبل البدء في الإدخار لمواجهة تقلبات المستقبل، الأمر الذي قد يستغرق ليس أكثر من سنتين في الغربة، وهذا ما يجعل المغترب غير السوداني –أكرر غير السوداني – مستعداً للمغادرة النهائية في أي وقت دون إحداث صدمة نفسية له أو لأسرته.
وإذا أخذنا الرياض مثلاً، نجد أن الجالية السودانية تميزت دون غيرها بأن شاركت أهل البلد المضيف البقاء الأطول، وحجز أماكن في المستشفيات الفخمة والوجود المنتظم في المقابر، وإقامة الحفلات الساهرة، والاجتماعات والمناسبات الاجتماعية (زواج ، ميلاد ، خطوبة) – وزادت عليها سياسية أحيانا – وانفردت باستقدام كل الأقارب من الدرجة الأولى حتى الأجداد من الجنسين للحج والعمرة والإقامة، وعرض منتجات تجارية وطنية متعلقة بالوجود الدائم للجالية (الملابس الرجالية والثياب النسائية والمطاعم الفولية والكمونية والمنتجات السودانية)، الأمر الذي كان يوحي للشارع السعودي أن السودانيين أكثر عدداً من كثير من الجاليات، في حين أن احصائية لوزارة الداخلية السعودية أوضحت أن الجالية السودانية تأتي في المرتبة الثامنة من حيث العدد.
الشيء الثاني الذي يوحي به الوجود السوداني في المستشفى والمقابر هو أنه لا جالية أخرى تمرض أو تموت في الرياض سوى السودانية، ومرد ذلك أن السودانيين يطيلون البقاء هنا حتى يدركهم العجز والمرض والموت، في حين تتبادل الجاليات الأخرى هجرة الشباب، فما أن يمضى الشاب غربته التي لا تتجاوز بضع سنين يحقق فيها أحلامه الأسرية الخاصة حتى يعود لبلده قبل أن تدركه مصائب التقدم في السن.
الاستثناء من ذلك هو من يصاب من الأجانب الآخرين في حادث مروري أو مرض مفاجئ، وهو ما لا يزيد عن خمسة في المائة على الأكثر بين كل الجاليات بالمقارنة مع الجالية السودانية.
يكاد جميع أهل السودان حتى ذوو الجاه والسلطة والمناصب المرموقة ورجال المال والأعمال ومرتادو السفر استمتعوا بهدايا أقاربهم وأصحابهم المغتربين، بينما لا يكاد ذوو الرفعة في شعب آخر دونهم قد حظي بذلك الشرف من بني جلدتهم المغتربين في دول الخليج العربية.
إذن سيكون التأثير المباشر للاجراءات المالية الأخيرة في بني الجالية السودانية أكثر من غيرهم. هذا لا شك فيه ولكن دعونا نستقصي هذا الأثر بالتحديد على تلك النشاطات التجارية والرياضية والثقافية والاجتماعية بشيء من التفصيل.
السيف قد وقع بالفعل على القطاع التجاري السوداني وخاصة أرباب عمل الثياب النسائية، في حين سيزدهر سوق المطاعم السوداني، وتحويل العملة عبر السوق الموازي عندما يتحول رب الأسرة الى عازب.
كما سيشهد الإقبال على مدرسة أمل السودان الرياضية الثقافية الاجتماعية التي تعتمد بشكل أساسي على البراعم والناشئين والشباب في مقتبل العمر هبوطاً واضحاً، وربما تشهد الروابط الرياضية لذات السبب اندثار بعض الفرق، أو اندماج بعضها، أو ازدهار بعضها القليل من خلال استقطاب فاقد الفرق المغادرة.
الجمعيات العاملة من أجل ذوي الاحتياجات الخاصة سوف تفقد أكثر من 200 من منسوبيها، ونما الى علمي أنهم سجلوا أنفسهم كمغادرين هذا العام.
المدارس السودانية (المنهج السوداني) سوف تضطرب أمورها وهي تقع ما بين سندان الاندثار تماما ومطرقة الانتماء لمدارس خاصة سعودية تعمل تحت غطائها، وهي التوليفة التي ربما لا ترقى لطموح التربويين المتخصصين السودانيين في مهجر الرياض، خاصة وأنهم كادوا يتوجون المجهود الذي رأته السفارة السودانية مؤخرا أحد انجازاتها التي ظلت تكافح ردحا من الزمن من أجلها لتقنع السلطات التعليمية بالسماح بتدريس المنهج السوداني في العلن.
المناسبات الاجتماعية التي تكون الأسر فيها رقماً مهماً، حيث يتم حجز ركن خاص لهن في الاستراحة، ويخصص لهن مكان خاص بالجلوس أو الرقص أو تناول الطعام (السفرة) سوف تتضاءل، ويعزف كثير من الأسر الموجودة عن الحضور في مكان يكون أكثر من ثلثيه من الرجال، والشباب يماثل الوضع الذي كنا نعيشه في بداية الاغتراب عندما لم تكن الأسر قد دخلت عش الزوجية. وهنا يطال هذا الأثر محلات تأجير الزل والمايكرفونات والمغنين والموسيقيين.
إذا استمر هذا الوضع لعام فسوف ينحسر عدد السودانيين الحاليين الى أقل من النصف قليلاً، ويأتي بدلاؤهم الجدد أما إذا تحسن الوضع المعيشي في السودان بشكل لافت بعد عام – وهذا مستبعد تماماً – فسوف ينحسر الى أكثر من النصف. وفيما عدا الأسر التي ستغادر بسبب المقابل المالي، فهناك الذين سيغادرون بسبب سعودة وظائفهم، أو عدم التجديد لمهن معينة، وعدم إمكانية تحويلهم الى وظائف أخرى. وهذه شريحة لا يستهان بها من غير ذوي الأسر.
وهب أن رب أسرة بلغ به السن ما بلغ قد تمكن من تسفير أسرته نهائيا ليبدأ مسيرة التوفير بعد أن فاقت الأسرة من سكرة الغربة ووهمة “فلان دا في الشركة وضعو كويس”، حتى أتاه الأمر بياتاً، وبصرف النظر عن مواجهة مشكلات ما بعد العودة الأسرية القسرية، وتشمل تأمين السكن والتعليم والصحة والعلاج والترحيل والرعاية الأبوية، فسوف لن يستطيع هذا الذي بلغ به العمر ما بلغ الاستمرار أعزباً أكثر من عامين يستمتع فيهما بإجازة سنوية لا تتجاوز الشهر قد يمضي منها ثلاثة أسابيع فقط مع أسرته اذا كان لا بد أن يواصل أرحامه بالأقاليم.
هذه هي المغادرات بحسب النظام الذي سيلفظ من أشرنا إليهم ولكن ما لم يبد للعيان هو تخلف كثير من الأسر التي من المفترض أن تغادر تبعاً لذلك، ولكن الفشل في مقابلة المقابل المالي ستقذف بهم خلف الأسوار، ويظلون قابعين كمتخلفين؛ مما يضع الجالية السودانية في مقدمة الجاليات المخالفة للنظام، بعد أن كانت تتبوأ المكان الأول باعتراف السلطات والجمهور في البلد المضيف من حيث احترامهم للنظام، وابتعادهم عن الإخلال باللوائح والأنظمة.
وبالتالي يتعين مواجهة تلك الظاهرة التي مردها سببان: الأول هو السلوك الاجتماعي لرب الأسرة ومحاولاته التي جبل عليها في التوفيق بين حاجيات أهل بيته من جهة والأهل في البعد من جهة أخرى، واستمرار حالة العجز المالي، وحلحلة الأمور بالطرق التقليدية مثل اللجوء للاستدانة من صديق أو من مؤسسة العمل الخ على أساس أن الأمور تسير هكذا الى ما لا نهاية ودون مفاجآت، والثاني هو أن صاحبنا الذي كان في يوم من الأيام حلال مشاكل وفاعل خير لا يمكن أن يظهر للناس أنه اليوم عاجز عن حتى تسفير عائلته، وربما يخفي من أسرته بعض الورطة التي وقع فيها، وهو ما يجعلنا في حاجة كمتصدين لأعمال الخير الجماعية أن نخطو خطوة نحو فك هذه “العرجة” التي نرى أنه في ظل طرح كل أوراق اللعب ليس لها حل سوى “الجوكر” الذي ما زال مختفيا ربما في آخر “جرتين”.
إذن يجب الأ نتوقع أن الإجراءات الأخيرة سوف تؤثر فينا بالقدر نفسه الذي ينسحب على كافة الجاليات، فالعدالة في النظام جعلتنا سواسية معهم، ولكن اختلاف السلوك التراكمي لجاليتنا عن غيرها يجب أن يجعلنا نختلف في رد الفعل، وطالما نحن ندرك خصائصنا فيجب علينا التعامل مع تلك التطورات من خلال إدراكنا لما يفرقنا عن أولئك الذين لم يحظوا بشرف خدمة ليس فقط أقاربهم بل كل أقوامهم ووطنهم.
خطوات لمواجهة مشكلات العودة:
هنا بعض الخطوات التي ينبغي اتخاذها:
الخطوة الأولى: أن نتحسس المنظمات والجمعيات التي نستطيع الوصول إليها لنسبر أغوار الظاهرة ومآلاتها خلال الفترة من رمضان – شوال 1439ه، وإعادة ترتيب أوراقها بحيث لا تفاجئها المتغيرات. وأن تكون متأهبة لأسوأ السيناريوهات، وفي هذا الصدد يتعين على تلك المنظمات عمل استبيانات لدى العضوية لمعرفة عدد المغادرين، وأسباب المغادرة، وأسئلة أخرى.
الخطوة الثانية : أن نقترب جميعنا من السفارة السودانية بالرياض للتعاون في فتح قنوات مع الجمعيات الاجتماعية بشكل إحصائي منظم يهدف الى التعرف على العدد الموجود حالياً، والمغادرين، والمرضى، والمساجين، والعاطلين عن العمل، والهاربين من كفلائهم، والمتنازعين مع كفلائهم ودياً أو قضائياً.
الخطوة الثالثة: رفع نتائج تلك الاستبيانات والدراسات الميدانية لجهاز المغتربين بهدف تدخل رأس الدولة لالتماس السلطات العليا هنا من أجل إعفاء المغادرين من إيفاء تسديد الرسوم المتراكمة.
الخطوة الرابعة: العمل على مستويات محددة في محاولة لتغيير النمط السوداني في التعامل مع الاغتراب كمجال لكسب العيش، وليس البعد عن الوطن الى ما لا نهاية، وذلك من خلال تكوين شركات محدودة، وشراكات مع سعوديين لنقل خبرة التعامل المتبادل بين الطرفين الى السودان بما يفيدهما.
الخطوة الخامسة: مواصلة العمل مع جهات الاختصاص بالسودان لحلحلة مشكلات ما بعد العودة غير الطوعية للأسر، وبالتحديد سلطات الجمارك (تعديل القوانين لإعفاء الأسر، وليس رب الأسرة) والأراضي والتربية والتعليم والضرائب والزكاة والجبايات المختلفة.
وفي الختام، تلك جالية ذات اغتراب أخلاقي مختلف، وتستحق تعاملاً مختلفاً من قبل سلطات البلد المضيف؛ لإنهاء إجراءات ذوي الديون الرسمية المتراكمة وسلطات البلد الأم لاستقبال عائد لم يكن مهيأ للعودة.
والله ولي التوفيق
• رئيس مدرسة أمل السودان الرياضية الثقافية الاجتماعية ، إحدى منظمات العمل المدني الطوعي بالرياض
إبريل – مايو 2018