عندما يواجه بلد ما مشكلة اقتصادية خانقة ينثر ذلك البلد كنانته، ويتخير من بينها الأكثر قدرة من خبرائه، ليعهد له بمواجهة الأزمة العتية، ونحن نواجه أزمتنا الخانقة في السودان، يحق لنا أن نتساءل من الذي اختار لنا وزير المالية الحالي، وما هي دوافع هذا الاختيار؟
وليس مبعث التساؤل تقليلاً من قيمة الرجل في مجال اختصاصه، وهو المحاسبة، ولكن في قلة خبرته في مجال الاقتصاد، ولذلك فهو غير مؤهل لأن يتحمل مسؤولية التعامل مع أزمة بهذا الحجم، وهذه الأبعاد المتداخلة، تحت ظروف سياسية غير مساعدة.
الرجل الذي آثر الصمت منذ أن تولى منصبه كان شحيح التصريحات كثير البعد عن الأضواء، حتى تحدث الأسبوع الماضي بصورة جعلت أكثر مؤيديه يردد سراً وعلانية جملة واحدة: «ليته قد صمت»،
فالرجل فتح قلبه لأعضاء البرلمان وأقر أمامهم بعجزه التام عن مواجهة هذه الأزمة، وعن فشل مجهوداته، وطوافه على الدول القريبة والصديقة آملاً في دعم سريع وتمويل ميسّر، فلما عاد خالي الوفاض أصيب بحالة من الإحباط، جعلته يقرر أن الأزمة السودانية عصية على الحل، وأن من يقول بإمكانية حلها في مستقبل قريب إنما «يغش نفسه ويغش السامعين»، وما دامت هذه هي قناعة الرجل، فلماذا يبقى في كرسيه؟ ألم يسمع أنه جيء به لتحقيق ذلك الحل العاجل على المدى القريب، والحل الشامل على المدى البعيد؟
لا نريد أن نظلم الرجل، فكل امرئ ميسر لما خلق له، وليس من العدل أن نكلف نفساً ما ليس في وسعها، والأزمة السودانية أزمة اقتصادية سياسية، والمدخل لحلها سياسي / اقتصادي، لخصناه في هذا المكان في حديث الأسبوع الماضي، في ضرورة وجود نظام يتمتع بتفويض شعبي عريض، ويحظى بقبول إقليمي ودولي حقيقي، بحيث يستطيع أن يعالج أزمة الديون الخارجية، ويعيد تأهيل السودان، كعضو فاعل في مجتمع التنمية الدولي، بما يضمن له تدفق الاستثمارات، والقروض الميسرة، والتبادل التجاري المستقر، والعلاقات المصرفية الراشدة،
ويومها لن يحتاج وزير المالية أن يطوف ويدق الأبواب في كل عاصمة، لأن طرائق الاتصال مع نظرائه في شتى أنحاء العالم ستكون مفتوحة وسالكة، أما الآن فهي مغلقة لألف سبب وسبب سياسي!
والشيء المثير للدهشة أن كل المحاولات التي تبذل الآن للتعامل مع الأزمة الاقتصادية السودانية لا تقترب من جوهر المشكلة، وتظل مشغولة بالأعراض، وليس بالعلل الحقيقية، وكل الحلول المطروحة هي أقرب ما تكون للمسكنات، وليس المعالجات، بل وحتى في باب المسكنات بعضها يحدث آثاراً جانبية أخطر من المرض نفسه،
فما قام به بنك السودان من تحجيم للسيولة في المصارف بحجة تجفيف الأموال المستثمرة في تجارة العملة، كان بمثابة إصدار شهادة وفاة للنظام المصرفي الضعيف أصلاً، إذ أنه جعل المودعين يفقدون الثقة تماماً في المصارف، لأنها ترفض أن تصرف لهم من أموالهم المودعة فيها، وها هو بنك السودان يلجأ للمزيد من المعالجات المشكوك في نجاعتها لإعادة الحياة للنظام المصرفي الذي سقط تحت الضربات التي وجهها له البنك المركزي مؤخراً،
وهي محاولة مقضي عليها سلفاً بالفشل، فلا إصدار عملة جديدة من فئة الخمسين جنيهاً، ولا تقديم الحوافز لإغراء المواطنين بفتح حسابات في البنوك، سيعيد الثقة المفقودة في النظام المصرفي، بحيث يضع المواطنون أموالهم فيه مرة أخرى!!
إن الأزمة السياسية الاقتصادية السودانية الراهنة تحتاج إلى حل سياسي اقتصادي يستوجب اتخاذ قرارات صعبة، ولا بديل لها، وبدونها سيكون كل المطروح مسكنات ذات أبعاد آنية، لا تخاطب جذور الأزمة!!