المتابع للكتابات السودانية في الشأن السياسي، يلاحظ حالة الضياع التي تعيش فيها النخبة السودانية، فهي كتابات تعتقد إنها تفضح النظام القائم، ومؤسساته إن كان ذلك في جانب الاقتصاد وانتشار الفساد في البلاد، أو في تقليص مساحات الحرية والقبضة الأمنية القوية التي تؤكد شمولية النظام، وهذه المقالات التي يعتقد أصحابها إنها رسائل لفضح النظام للجماهير، إنهم يضيعون زمنهم، باعتبار إن الشعب يعيش هذه الأزمة ويعرف تفاصيلها، الشعب منتظر من نخبته مبادرات تقدم حلول لأزمة البلاد، ولكن الشعب يعرف الأزمة الاقتصادية وعجز السلطة لحلها ويعرف كل المعلومات عن الفساد والمشاركين فيه أكثر من الذين يعتقدون أنهم يحاربونه، والغريب في الأمر إن الكتابات التي تحاول أن تقدم مبادرات وطنية أو تقدم مقترحات للحلول ضعيفة وشحيحة ولا ينظر لها بجدية من قبل السلطة أو من قبل المعارضة.
وحتى الذين يحاولون أن يقدموا مبادرات و يعتقدون إنها تفتح منافذ للحلول، يقابلها البعض باستهجان شديد، وذلك يعود إن أغلبية الذين يكتبون لفضح النظام وممارساته هم خارج البلاد، وبالتالي يعتقدون إن أي حلول فيها مساومات سياسية غير مقبولة ويجب رفع سقف النضال إلي الإسقاط، وهؤلاء لا يقرأون الواقع قراءة صحيحة، ولا يشعرون بمعاناة المواطن، ولا يعملون حساب أن الوطن في حالة من التحدي، يكون أو لا يكون، لذلك هي كتابات أغلبها للتسلية بدلا أن تكون كتابات تبحث عن حلول واقعية، فالعقلية التقليدية هي عقليات منتشرة حتى وسط القوي الحديث، هي طريقة في التفكير الذي يعمق المشكل ولا يقدم حلا.
إذا نظر هؤلاء الكتاب إلي المعارضة بواقعية، وبعيدا عن العواطف التي دائما تكون نابعة من ميول سياسية ليس فيها حكمة للعقل، إن المعارضة السودانية منذ انتهاء مرحلة ” التجمع الوطني الديمقراطي” هي الفترة التي كتبت فيها شهادة موت العقلية التقليدية في السياسة السودانية، كانت القيادات السياسية في تلك الفترة أميل للشعارات الخالية من المضامين من الواقعية السياسية، وكان الصراع داخلها أكبر من صراعها مجتمعة مع النظام الحاكم، فكانت القيادات التقليدية تعتقد أن السياسة ما هي إلا كيفية إدارة المؤامرات ضد حلفاء دون الأعداء، وبدأ ذلك الصراع الداخلي بين القوي السياسية المنضوية في عضوية التجمع الوطني الديمقراطي قبل هيكلته التنظيمية، عندما كان يسمى في تلك الفترة ” اللجنة التنسيقية العليا للتجمع” وكانت الحركة الشعبية بدأت تفرز نفسها و تخطط أن تقدم رؤيتها دون رؤية التجمع منذ ذهبت لمحادثات ” إبوجا” ولكن كانت التقليدية السياسية تغمض أعينها و تصم آذانها داخل التجمع، و كانت للأسف تعرف إنها في حالة ضعف لا تجعلها قادرة أن تدخل في تحدي مع الحركة الشعبية و تفضح مخططاتها، كان العجز ظاهرا لأنها تحولت لأدوات للحركة الشعبية، حتى ختمتها الحركة بمحادثات “نيفاشا” التي أدت لصدور شهادة وفاة ” التجمع الوطني الديمقراطي” كان حزب الأمة خارج التجمع لذلك لم يشارك في المحاصصة وبعد اتفاقية ” نيفاشا” ذهب الاتحادي الديمقراطي مباشرة للمشاركة مع المؤتمر الوطني وأصبح جزءا من السلطة، موقف الحزب الاتحادي الديمقراطي، قد أثار حفيظة حزب الأمة و ظهر تيارا راغب في المشاركة أسوة بالاتحادي الديمقراطي، وتأكيدا للتقليدية السياسية فأرسل مبارك المهدي لكي يحاور النظام، ولكن ما توصلت إليه محادثات مبارك المهدي مع النظام خلقت انقساما داخل الأمة بين مؤيدين للمشاركة وأغلبية رافضة، وذهب مبارك ومؤيديه للمشاركة.
إن مشاركة الاتحادي الديمقراطي بقيادة الميرغني والأمة المنشق بقيادة مبارك المهدي تؤكد إن السياسة السودانية لا تقوم على مبدئية، لآن مشاركتهم لم تغير من طبيعة النظام، وحتى لم تزيد من مساحة الحرية التي كانوا رافعين شعارها، فالنظام سوف يضمن لهم مصالحهم الخاصة وهي المصالح التي لم تراعيها الحركة الشعبية، لذلك لا داع للبعد عن السلطة، والتقيد بشعارات هم لا يؤمنون بها ولا يمارسونها في حياتهم الحزبية مطلقا، انخرطوا في النظام و هي ذات السلطة التي ناضلوا من أجلها، إذا كانت الحركة الإسلامية قد فتحت لهم أبواب السلطة منذ أيام الانقلاب الأولي كانت اختصرت لهم الطريق، لكنها عادتهم وشنت عليهم الحرب.
إن الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد، وتعتقد المعارضة إن حلها لا يتأتى إلا بعقد مؤتمر دستوري تشارك فيه كل القوي السياسية، وقبل ذلك تهيئة البيئة الصالحة بتوسيع مساحة الحرية وإلغاء القوانين المقيدة للحريات. ولكن الإشكالية ليس المؤتمر الدستوري إن ما هي العقليات التقليدية التي تمارس السياسة بمناهج عتيقة، ورؤى ما عادت تتلاءم مع الواقع بسبب المتغيرات التي حدثت في المجتمع، وهي التي كانت سببا في الأزمة نفسها، والبلاد في حاجة لعقليات جديدة لديها طريقة جديدة في التفكير، لكي تغير من خلالها الأدوات العتيقة التي فقدت قدرتها على العمل، وتغير المناهج السياسية التي أُثبتت فشلها. لكن سيظل هناك سؤالا هل القوي الحديثة في المجتمع لديها الفكر والرؤى التي تساعدها على استيعاب الواقع والعمل من أجل تغيره وتغير أدواته العتيقة؟
كان أحمد خير المحامي قد كتب في كتابه ” كفاح جيل” الصادر عام 1948 قبل الاستقلال يقول في صفحة 14عن الجيل الجديد في تلك الفترة، و الذي كان يعتقد سوف تقع على كاهله عملية بناء السودان، يقول ” طبقة تجتاز طور التكوين والنشوء، وتلك هي طبقة الجيل الحديث في السودان، حديث في الترتيب الزمني، وحديث لأنه الجيل الذي نال قسطا من العلوم العصرية، ونال حظا أوفر من التدريب و الصقل في دواوين الحكومة، وبدأ ينظر إلي الحياة و المجتمع السوداني بمنظار عصري و يقدره تقديرا عصريا، وهو مزيج من الثقافة الدينية السليمة، ومن الثقافة الأوروبية الجارفة” كان أحمد خير يراهن على القوي الجديدة في المجتمع، و التي نالت قسطا من التعليم الحديث، و تفكر بصورة مغايرة للقوي التقليدية التي كانت قد نالت تعليمها من الخلاوي والمسائد ذات التعليم التقليدي. لكن الجيل الجديد الذي راهن عليه أحمد خير هو نفسه الذي كان سببا في أزمات البلاد، و هو الجيل الذي حكم بعد الاستقلال، كانت حصيلتهم التعليم محدودة رغم أفقهم كان واسعا، و لكن محدودية تعليم جعلتهم لا ينظر أبعد من أرنبة أنفهم، لذلك فشلوا في الحفاظ على النظام الديمقراطي عدة مرات، وأيضا فشلوا من الاستفادة من تجاربهم السابقة.
بعد رهان أحمد خير كان الرهان على ” القوي الحديثة المتناقضة في رؤاها ” الشيوعيين والإسلاميين” باعتبار إن التنظيمين تأسسا على القوي الحديثة، التي نالت قسطا من التعليم الحديث، و كانت أكثر توسعا في التعليم الحديث و المناهج الغربية من القوي الحديث الراهن عليها أحمد، حيث مجموعات كبيرة منهم قد قرأت في الغرب، وتعرفت طبيعة المجتمعات الغربية و الممارسة الديمقراطية هناك، و أيضا تعرفت مناهج التعليم الحديث والتيارات الفكرية الأخرى، هؤلاء جاءوا بشعارات غير تقليدية، و ظلت شعارات، حيث فشل الشيوعيون في قيام نظام ديمقراطي، ثم أدي صراع السلطة لانقسام داخل الحزب الشيوعي، والذين راهنوا على السلطة ظلوا يمارسون السياسة بذات العقليات التقليدية، كانت النتيجة إن الذين ساروا مع السلطة فشلوا في تحقيق السلام و التنمية والذين راهنوا على الحزب عجزوا أن يطوروا مؤسستهم الحزبية، و أصروا أن يكونوا أكثر تقليدية من الآخرين. وجاءت الإنقاذ وكان حال الحركة الإسلامية أفضل من الحزب الشيوعي، حيث كانوا يملكون العلم الحديث وأيضا المال، و سقطت جميع شعاراتهم حتى الطهرانية في الممارسة السياسية، و كانوا أشدة قسوة و حدة في محاربة الحرية، و أي دعوة من أجل الديمقراطية، وأحدثوا من الفساد ما لم يعرفه السودان في تاريخه، كل ذلك كان بسبب الرهان على القوي الحديثة.
كل هذه القوي قد تراجع رصيدها الجماهيري، وسقطت شعاراتها إن كانت تسمى القوي التقليدية سابقا ” الاتحاديون – الأمة” وأيضا القوي التي كان يعتقد إنها قوي جديدة “الشيوعيين – الإسلاميين” وقد أثبتت الممارسة الفعلية إن الوطن لم يكن جزءا من مشروعهم السياسي، ولا المواطنين كانوا جزءا من حساباتهم، كانت المصالح الحزبية والشخصية عندهم هي التي تعلو و لا يعلى عليها، ففشلت مشروعاتهم السياسية، و سقطت شعاراتهم، وأي محاولة من أجل حل الأزمة بالعقليات التقليدية التي تحكم، أو كانت قد حكمت من قبل، هو رهان خاسر، فالبلد في حاجة لقوي سياسية جديدة، ذات رؤي جديد، تتجاوز كل آدوات الماضي التي أثبتت الممارسة فشلها، و أيضا القيادات القديمة قد قدمت ما عندها والآن نضب خيالها، ولكن متشبثة بالحكم، هذه العقليات القديمة لا يفيد الحوار الوطني ولا المؤتمر الدستوري الذي تنادي به المعارضة، مادام طريقة التفكير لم تتغير قط، ومادام الكل يسير على ذات المنوال السابق. نسأل الله حسن البصيرة.