يمر السودان بأيام عصيبة جداً.. و أَجِد صعوبة متزايدة في تقبل فكرة أن تصبح هذه المرارات مثار للنكات و الفكاهة..
فأزمات الوقود و الرغيف و الدواء قد لا تعني أحدنا كثيراً أو تمسه مساً مباشراً، و لكنها قد تكون حداً فاصلاً بين الحياة و الموت لآخر..
لقد تعايشنا مع روتين الموت الجماعي في بلادنا بمختلف أشكاله- إنفجارات التناكر، حوادث البصات السفرية، نساء العمليات القيصرية في مستشفيات الولادة.. إلخ- حتى أضحى غرق ٢٣ تلميذاً في لحظة واحدة و هم في طريقهم إلى المدرسة لا يعدو كونه خبراً نمر عليه مرور الكرام .. ننظر إلى قائمة الضحايا فلا نحس بفاجعة والد فقد ٤ من أطفاله دفعة واحدة و أخر فقد ٣، ولا مرارة الفقد و لوعته عند أمهاتهم اللآئي ربما كن يمنين أنفسهن أن يصبح أبناءهن و بناتهن مهندسات و أطباء و ربما كانت تحلم إحداهن أن يغترب ولدها هذا في السعودية أو إيرلندا كولد فلانة تلك، ليعينها على نوائب الدهر بعدة يوروهات يرسلها لها شهرياً..
لك الله؟
و ما عسانا نفعل أمام القضاء و القدر؟ نعم قضاء و قدر (و نعم بالله و قدره)..
تأملت ما حدث اليوم و تذكرت ما كان يحكيه لي والدي (عليه الرحمة) في كيف أنهم كانوا يعبرون النهر يومياً في مراكب جيئة و ذهاباً للمدرسة، حرصاً على تعليم يعينهم و أمل أبآءهم في مستقبل أفضل لهم.. كان ذلك في عشرينيات القرن الماضي.. أي والله، مئة عام .. مئة عام و لا زال أطفال في بلادنا يفتقرون إلى أبسط حقوقهم في تعليم سهل المنال حيث يسكنون، و حقهم في وسائل نقل آمنة إلى حيث يتلقون علماً ينفعون به أنفسهم و أهليهم و وطنهم..
لن أتحدث عن ولاة لم تحركهم عثرات البغال في أصقاع بلادنا.. كانت ردودهم على الإمبريالية و أعوانها “كباري و سد”.. سد لم يكن بعيداً عن حيث غرق هؤلاء التلاميذ و لم يكن لبناء كبري أو عبارة أو وسيلة نقل تعينهم على الوصول إلى مدارسهم حظ أو نصيب مما أكتنز ولاة أمرنا و خلصائهم من ذهب و فضة و عملات صعبة تحت وسائدهم، و ربما قدروا أن بناء مدرسة لهؤلاء في منطقتهم لن يعين و لن يجدي في الحرب على الإمبريالية..
لكني سأتحدث عن تقصيرنا نحن .. فكم منا جعلته هذه الحادثة، و غيرها، يتأمل في تقصيره تجاه وطن مفجوع فجيعة تخطت حد الوصف.. ولا زلنا نتلقى الفجيعة تلو الأخرى.. و لا زلنا نبتكر النكتة تلو الأخرى في مصائبنا..
و كم منا جعلته هذه الحادثة و غيرها يفكر و يعمل على بناء وطن يتوقف فيه الأطفال عن الموت الجماعي جوعاً و غرقاً و حرباً؟
ليتقبل الله الأعمال، من كلٍ بقدر ما قدم ..