يقول الكاتب السوداني أمير تاج السر: “بحسب مشاهدتي من ترددي على المكتبات لاحظت أنه ثمة تفرقة في عرض الكتب ويمكن اعتبارها تفرقة في الترويج للكتب وبناء عليها يكسب كتاب ويخسر آخر فهناك كتب معينة لا تفارق الواجهة أبدا مهما ابتعد تاريخ صدورها وصدرت بعدها كتب أخرى كتب لا تفارق الظل الأرفف تحت لافتة مكتوب عليها الأكثر مبيعا حتى لو لم تكن كذلك وكتب تحتاج لعدسات مكبرة حتى تعثر عليها مخبأة تحت كتب أخرى أو داخل رف عميق تنتشلها منه وفيها كتب لمؤلفين أثروا الكتابة بشكل رائع”.
كنت قد قرأت مقالا يتحدث في الكاتب والأديب الراحل أحمد خالد توفيق عن أثر ذلك الكتاب الأوحد الذي يطيح برأس الكاتب في وعى الأدب ويجعله أسيرا وحبيسا لروايته وعمله الأشهر ذلك فيصبح كل ما يكتب الكاتب بعد ذلك العمل خاضعا لعدسة النقد اللاذعة لا لشيء سوى لمقارنته بذلك العمل الذي سلب الألباب وخطف العقول وأخرج الأعين من محاجرها إعجابا وانبهارا فعاد كل ما يكتب الكاتب خلافها هباءا منثورا في ساحة النقد اللاذع والمقارنة المقيتة.
مفارقة حقيقة إلى حد كبير فكم كانت بعض الروايات سببا في إجهاض روايات جديدة حديثة لنفس الكاتب قبل أن تخرج من مهد القلم لا لشيء سوى أن الجريمة والعقاب لدويستوفيسكي أشهر من بعض رواياته الأخرى أو ال 1984 لجروج أوريل غطت على رائعته الأخرى مزرعة الحيوان التي لا تقل جمالا وكثير من الروائع الأدبية التي خطها الكتاب بعدها وحتى لو كان ذلك العمل أكثر نضجا وأقوى سردا لكن تعلق تلك الرواية في أذهان وقلوب قارئيه جعلتهم وبقصد أو بدون قصد سببا لطاعون ينخر في أدب الكاتب فيتحول من كاتب مبدع إلى محاولة لتقليد تلك الرواية الناجحة يصيغها بعدة أساليب وطرق مختلفة علها تحظى بنفس شهرة شقيقتها الكبرى.
ولأن العالم العربي ليس حكرا فقد نال الكتاب العرب نصيبهم مما يمكن أن يطلق عليها لعنة الرواية الواحدة فدفنت تحت غبارها وخيلائها كثيرا من شبيهاتها التي لا تقل جمالا وأن كنت متابعا شغوفا محبا للأدب فلابد أن تكون قد لامست يداك أو حتى تداعبت أذناك رواية موسم الهجرة إلى الشمال للأديب السوداني الراحل الطيب صالح التي حققت شهرة واسعة على الصعيدين العربي والعالمي على حد سواء ولقيت كثيرا من الترحاب والشجب على حد سواء بين معجب منبهر وناقد رافض للرواية جملة وتفصيلا.
لعنة أصابت الطيب على الصعيد الشخصي فحجبت روائع أدبه الأخر كعرس الزين ودومة ود حامد مريود أو حتى كتبه الأدبية الفذة الناقدة والمحللة والسابحة في بحور الأدب العربي لكن الفاجعة الأكبر كانت أن لعنة الطيب صالح قد انتقلت لتصيب أدبا كاملا وأمة كاملة لها مخزونها الثقافي والتاريخي العميق فأضحت لعنة عامة حلت على الأدب السوداني ليصبح نسخة مصغرة ضعيفة هشة الجوانب لأدب القرية التي يتميز به الطيب صالح وبرع في كتابته.
فنموذج القرية والبادية الخمر وساقيته وما يدور حولها وتلك الأنثى التي يفرغ فيها الأديب شهوته العابرة في طريقة مزعجة يحشرها الكاتب حشرا بين صفحات الكتاب والنضال والسجن والحكومة والسحل من قبل جهاز الأمن وذلك البطل الحكيم الذي يطلق حكما غاية في الغموض والعمق على مسامع أهل القرية البسطاء بالإضافة إلى أسلوب الفلاش باك أو العودة إلى الماضي من خلال حدث ما وهو ما كان يستخدمه الطيب صالح بكثرة أضحى هو السمة المعروفة والمشهودة للأدب السوداني في تكرار مقيت ومزعج فلا يكاد يخرج عن كونه أحد تلك الأدوار حتى لتظن أنك تقرأ نفس الرواية بذات الأحداث لا يفرقها سوى اسم الكاتب هذه المرة.
وبرغم ما يحتل الأدب والوسط السوداني من التكرار لنفس وذات الفكرة خرجت من وسط رماد التكرار تجارب سودانية تستحق الإشادة وخرجت بأدب سوداني رفيع ينقل الصورة الأكثر شمولا للأدب السوداني الغني وليثبت أن الأدب السوداني ليس ضعيفا ولا هشا وأن الكاتب السوداني لا تنقصه القدرة ولا الإمكانيات لإخراج أدب معروف في نطاق الوسط العربي أو العالمي حتى وهنا ترشيح لبعض تلك النماذج المشرفة.
أمير تاج السر
أولى تلك النماذج هو الكاتب السوداني الذي قدم بأدبه المختلف تجربة فريدة عن الأدب السوداني أمير تاج السر الأمر الذي يعد مفارقة طريفة فبينما يعد أمير تاج السر أحد أكثر الكتاب السودانيين قرابة للطيب صالح حيث يكون أبن اخت الروائي الراحل إلا أنه أحد أقل الكتاب تأثرا بطريقة وأسلوب الطيب صالح وأدب القرية الذي ابتكره فخرج بأدب رفيع مختلف كليا عن الصورة التقليدية للأدب السوداني ليجعل لنفسه موضع قدم في الوسط الأدبي السوداني والعربي وتتسع دائرة معجبيه ومحبي أسلوبه الأدبي الرفيع بل حتى أن رواياته قد ترجمت لعدة لغات عالمية.
وهو ما بدا واضحا لتكرار منافسات رواياته على عدد من الجوائز العربية فترشحت روايته صائد اليرقات لجائزة البوكر العربية عام 2009 وتكرر ترشح روايته زهور تأكلها النار لنفس الجائزة في أخر نسخها بينما فازت روايته 366 في جائزة كتارا للعام 2015. وله أعمال كثيرة أشهرها بالإضافة لما ذكر توترات القبطي وزحف النمل وطقس إيبولا 76 والعطر الفرنسي بالإضافة إلى مقالات أدبية قمة في الروعة في ثلاثة كتب هي ضغط الكتابة وسكرها وذاكرة الحكائين وتحت ظل الكتابة.
يمتاز أسلوب أمير تاج السر بالسلاسة فهو يقدم أدبا أقرب ما يقال أنه السهل الممتنع ويهب القارئ تجربة فريدة بالإضافة لأسلوبه الساخر والطريف الذي يزين فم القارئ بضحكات متقطعة طول أحداث الرواية وخصوصا كرهه لحالات الكتابة الارتجالية التي قد طفحت في سطح الأدب هذه الأيام.
ثاني تلك التجارب هي الروائية السودانية ليلى أبو العلا التي رحلت عن السودان جسدا ولكن أدبها بقي شاهدا وسفيرا لوطنها الأم فخطت أدبها بين ربوع اسكتلندا فخرجت بأدب مختلف كليا عن الصورة التقليدية للأدب السوداني ولقيت كثيرا من الإشادات العالمية وفازت بالكثير من الجوائز ولقيت أعمالها كثيرا من الحفاوة نتيجة للصورة التي تقدمها رواياتها عن المرأة المسلمة وخصوصا مشاكلهم ومعاناتهم في دول المهجر والاغتراب لتنقل صورة مختلفة عما يروج عن المرأة المسلمة والعربية وتلقى كتاباتها استحسانا كبيرا في الوسط الأدبي الغربي.
تقول ليلى أبو العلا: “الكتابة بالإنجليزية ليس اختيارا بل فرضه التعليم منذ الصغر وأعتقد أنها الأكثر جودة بالنسبة لي مقارنة باللغة العربية التي لم تتطور عندي هذا الاختيار تعمّق بالغربة والعيش في المجتمع الإنجليزي والذي أردت أن أخاطبه بلسانه وبهموم امرأة عربية مسلمة تعيش فيه”. من أشهر أعمالها رواية المترجمة التي تنبري فيها للحب والدين خصوصا للنساء في دول المهجر بالإضافة لرواية المئذنة، المتحف، كرم الأعداء.
حصلت ليلى أبو العلا على جائزة كين العالمية للأدب الإفريقي عن قصتها المتحف ووضعت روايتها المترجمة في قائمة 100 كتب البارزة في تصنيف نيويورك تايمز ورشحت رواياتها لعدد من الجوائز المحلية الأسكتلندية أو حتى العالمية وترجمت رواياتها لأثنى عشرة لغة وبثت رواياتها وقصصها القصيرة على راديو بي بي سي.
هي تجارب ليست للحصر ولا لتأطير الأدب السوداني وتقديمه في صورة عدد من الروائيين ولكن الأدب السوداني يحتاج العديد والعديد من اللقاءات والصفحات التي لن يوفيها أي كاتب حقها وما زال يزخر بكثر من الكتاب الذين لهم جمورهم العربي المحلي أو حتى العربي والعالمي كحمور زيادة ورائعته شوق الدرويش وبركة ساكن وأدبه الذي كون جمهورا واسعا وعماد البليك الذي حاول الخروج من الإطار التقليدي برواياته ماما ميركل وقصة اللجوء الى أوروبا وغيرهم من الكتاب الذي ربما نفرد لهم صورة أكثر عمقا لأدبهم وأكثر تفصيلا.
موقع الجزيرة