صرف التلاميذ الذين يتكبدون مشاق الحضور الى المدرسة، وربما تصح عبارة “طردهم”، في الأوقات التي يصعب فيها الحضور، من الظواهر التي طرأت على واقعنا المتدهور أصلاً، كأن تكون هنالك أمطار أو أي ظرف طبيعي آخر؛ مما دفع غالبية التلاميذ لعدم التفكير في الحضور حتى لا “يتعرضوا للطرد”.
هذا الحدث الصغير قد يراه كثيرون حدثاً عادياً، وربما يرونه شيئاً تافهاً لا يثير الاهتمام، لكني أرى أن ذلك أمراً غاية في الخطورة، لأنه يؤثر في حياة التلاميذ، ويعوق أمر تربيتهم ولا يعين على تعديل سلوكهم، ويُرَسِّخُ لديهم عادة التبطل والتسيب وعدم الاهتمام وعدم الانضباط؛ مما يخرج المدرسة، التي هي أكبر مؤسسة اجتماعية، تؤثر في حياة الأطفال، عن وظيفتها الأساسية في وظيفة التربية، ويجعل منها مؤسسة فاشلة ترفد المجتمع بمزيد من الفاشلين والعاطلين، وتربي المتسيبين على المزيد من التسيب، بل وتجعل العاطلين يسخرون من الذين يحرصون على الحضور، ويمدون ألسنتهم تهكماً وازدراءً تجاههم؛ مما يغذي دوافع الانفلات والتسيب، ويدفعهم الي الانحلال دفعاً، ويزيد، كل يوم، من جماعات المتبطلين، إذ يرسخ في خلد المنضبطين أن الانضباط لا يجلب لهم إلا السخرية و”التريقة” من زملائهم.
إن هذه الصورة المتخلفة لا تجعل من التربية في بلدنا عملا مثمراً، وإنما تجعله وسيلة لتثبيط الهمم، وتعطيل الطاقات، وتربية النشء على الخمول وكراهية العمل، الأمر الذي يضر بحياة الأطفال، ومستقبل الأمة.
وما لا يحتاج الي تأكيد، أن دور المناهج والقوانين والضوابط واللوائح هو التأثير الايجابي في الأطفال وخلق أفراد صالحين في المجتمع، إن كانت لوائح وضوابطَ حكيمةً، لكن التغييرات التي تتم بلا دراسة وتقصي، والتي يقوم بها إداريون وفنيون قليلو الخبرة، ويتم وضعها على عجل، ولا يخضعونها للتجربة الكافية قبل تطبيقها، والتي تقتضي إلغاء الطرائق السليمة التي كانت تُتَبَعُ بعد أن أثبتت التجربة نجاعتها، تزيد من التخبط والعشوائية، ومثالاً لذلك أن المراسلات والمكاتبات الرسمية التي كانت، حتى وقت قريب، غاية في الصرامة.. فقد صارت تتخذ في عجلة وبتخبط وتُرْسَلُ عبر وسائط غير مأمونة يشتكي المسؤولون من خطورتها، ويهددون بوقفها، جهراً، لكنهم يستغلونها سراً في أمور في غاية الخطورة؛ إذ أصبح يتم تداول التعليمات عبر الواتساب، وليس بالواتساب عيب، لكن العيب في سلوك المسؤولين، إذ لا يعتمدون هذه الوسيلة بصورة رسمية، فبدلاً من يعتمدوا رقماً معيناً للاتصال نراهم يجعلون العشوائية نهجا شائعاً، فلما لا تعتمد مؤسساتنا وسيلة محددة للاتصال كالبريد الالكتروني e-mail الذي يستخدمه حتى تلاميذ المدارس.
أمران آخران أثارا الحزن، الذي طال أمده على قلبي: أن تشاهد صوراً لوالٍ يغصب أطفال الدرداقات على التبرع للدورة المدرسية، وأطفال محرومون عن المدرسة بسبب العوز والفقر؟! ووزير تربية يحن إلى عقوبة الجلد، ويراها حلاً لما طرأ من مشكلات عجز وطاقمه عن البحث في وسيلة ونهج وطراق حديثة للثواب والعقاب بديلة عن عقوبة الجلد التي أصبحت من مخلفات عهد العبودية.
وحق لنا أن نتساءل: أين البحث التربوي أيها القائمون على (المركز القومي للمناهج والبحث التربوي)؟؟! أهو اهتمامكم بوضع المناهج التي تقوم على حشو أدمغة الطلبة بالمعلومات التي غالبا ما تتخطاها الحياة، قبل تخرّجهم؟.. مناهج لا تعدو أن تكون ضرباً من السير في التيه، على غير هدى ولا كتاب منير.. أيها القائمون على أمر المناهج إن التغيير الكبير الذي طرأ على الحياة المعاصرة، نتيجة للتقدّم العلمي، والتقدّم التكنولوجي، اللذين أديا إلى تغيير كبير في المفاهيم، وفي طبيعة مشكلات الحياة، وإلى ضرورة إعادة النظر في التعليم، وفي التربية، وفي سبل تربوية تحترم إنسانية التلميذ وتحفظ له كرامته، على ضوء الظروف الجديدة.
والأمر الأخر الذي يدمي قلباً، يكاد يتوقف نبضه حسرةً على حال معلمينا، والإمعان في إذلالهم، هو أن يأمر وزيرٌ للتربية بمنع المعلم عن الخروج من مدرسته لأي سبب، في وقت يكون فيه (حلالاً) على الوزير أن يستلم جدوله محاضراً في جامعة:
لا تَنهَ عَن خُلُقٍ وتَأتي مِثلَهُ * عارٌ عَليكَ إذا فَعَلتَ عَظيمُ
الذين يقومون على شؤون التعليم ومناهجه، في بلادنا، هم أكبر سبب لنكباتنا وطمس مواهب طلابنا النجباء، وتبديد قدراتهم فيما لا طائل من ورائه، ولا نرى في الأفق مسؤولين يتحمّلون مسؤوليتهم في البحث عن سبل تحقق غايات التعليم بجعله تعليماً نافعاً، مع أن العمل في التربية يقوم على القدوة والنموذج:
“إذا كان رب البيت للدف ضارباً * فشيمة أهل البيت كلهم الرقص”..
إن حال التربية صار لا يسر صديقاً ولا حتى عدواً.. والتخبط هو الدليل الماثل الذي نراه رأي العين في كل أوجه حياتنا.. وما البؤس الذي نعيشه إلا صورة لعدم تخطيطنا لتعليم ناجح.
يُقَالُ إن التجربة التي لا تورث حكمة تكرر نفسها، وقد أصبحنا لا نحتمل تكرار التجارب الفاشلة.