تدخل بعض الأعمال الإبداعية وكاتبوها التاريخ لأسباب قد يكون منها جودة التأليف، أو تفرّد العبارة وتخطيها للسائد والمألوف أو بسبب جرأة تناول القضية في زمانها ومكانها – حتى لو كان التناول مما يودي بكاتبه إلى المخاطر.
وأبيات الألماني مارتن نيمولر نالت من الشهرة ما طبق الآفاق ليس لتركيب العبارة، أو لجمال الصورة الشعرية أو لروعة المفردة. لكن القصيدة محدودة الأبيات، بسيطة العبارة وواضحة الدلالة بقيت شامخة في دفتر الشعر الألماني، بل وقفت شامخة بين روائع الشعر العالمي المعاصر؛ لأنها قالت ما لم تقله كتب ومقالات وبحوث حول التقاعس واللامبالاة في زمن الشدة.
ومارتن نيمولر قس في الكنيسة اللوثرية. كان في البداية مؤيداً لهتلر لكنه رفض سيطرة النازيين على الكنائس، ومحاولتهم ربط المسيحية بالنازية، مما أدى إلى اعتقاله والحكم عليه بالسجن ، بل كان على حافة الحكم عليه بالإعدام، لكنهم أبقوه في السجن من العام 1938حتى سقوط النازية بنهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945م. تقول الأبيات التي دخلت التاريخ – وهي بعنوان”جاؤوا أولاً” :
جاؤوا أولاً ليعتقلوا الشيوعيين
ولم أعترض
لأني لم أكن شيوعياً !
ثم عادوا لاعتقال الاشتراكيين
ولم أقل شيئاً
إذ لم أكن اشتراكياً !
وجاؤوا ليعتقلوا القادة النقابيين
ولم أعترض
حيث لم أكن نقابياً !
ثم جاؤوا لاعتقال اليهود
ولم أقل شيئاً
فما كنت يهودياً!
وأخيراً جاؤوا لاعتقالي
فلم يكن هناك أحد
ليعترض من أجلي!
يخطيء الذين يقولون إن التاريخ يعيد نفسه. لكن لأن الفعل الإنساني متشابه على مر العصور، فإننا نرى التجارب البشرية متشابهة، بل نرى التشابه المقيت لغباء المستبدين، كأنهم لا يقرؤون التاريخ. ومارتن نيمولر في أبياته الشعرية القليلة لم يلق اللوم على النازيين بقدرما ألقى باللائمة على نفسه كمثقف، قاصداً أن يقول لحملة القلم والمفكرين ونشطاء الفعل السياسي وحقوق الإنسان أن لامبالاتهم حين يطبق المستبد على زمام الأمر ستمد في عمر الاستبداد، مثلما حدث لمن غضوا الطرف عن ممارسات النازيين في إلقاء القبض على المعارضين، والزج بهم في غياهب المعتقلات والسجون – كما جاء في القصيدة – حيث قادت تلك اللامبالاة في خاتمة الأمر إلى إلقاء القبض عليه، وحيث لم يكن وقتذاك من بقي حراً ليدافع عنه.
ليس من شيء أكثر إيلاماً قرابة الثلاثة عقود إبان حكم الإخوان المسلمين الفاشي في بلادنا من موت المثقف. البعض حسبوا أن المسألة لن تطول، فدبجوا بعض المقالات والقصائد، ثم إما طالت المفازة خفت صوتهم. والأكثر إيلاماً أنّ جرائم الإبادة واغتصاب النساء في دار فور التي شهد عليها أحرار العالم ومنظماته الحقوقية، وكذا إسقاط البراميل المتفجرة على الأطفال والنساء في جبال النوبة وهم يتسابقون إلى الكهوف إتقاء القصف الجوي، أو قصف القرى في جنوب النيل الأزرق- كل هذا الفعل الذي هو توأم أعمال النظام النازي النازي- لم يحرك في الكثيرين شعرة.
ظللت أتابع كتابات “مثقفاتية” المركز أمداً طويلاً. بعضهم يصرخ على الورق بما يشبه رزق اليوم باليوم. وكثيرون منهم يدبّج المقالات في حادثة ارتكبها زبانية النظام بشخص أو أسرة في عاصمة البلاد ليس لخطورتها؛ بل لأنها وقعت على مرمى حجر من بيته وهنا يدب الخوف، وتكتظ وسائط التواصل بمقالاتهم.
أما ما يحدث على مدار اليوم من مجازر في الهامش العريض منذ سنوات، فتلك أماكن بعيدة، وأولئك قوم لا يحركون في الكثيرين شعرة.
لست أرمي وراء ما قلت بالتهم جزافاً ، بل ذاك أو ما يشبهه تماماً ما قال به أحد أقارب سيدة اختطفت في الخرطوم، ووجدت جثتها بكل أسف طافية في النيل.
قال: إنهم ما كانوا يشعرون قبل اليوم بحجم الكارثة لما يحدث في دار فور وتلك المناطق البعيدة؛ لأنها حسب قوله العفوي لا تعنيهم كثيراً.
وقد أعجبتني صراحة وصدق الرجل بقدر ما صدمتني. ومثل كلام هذا المواطن يشي بأن المثقف والناشط السياسي ماتا وشبعا موتاً، إذ إن ما ينبغي أن يقوما به من توعية بالكارثة التي حلت ببلادنا على نطاقها القومي لم يحدث..وإن قام به البعض منهم فهو لا يعدو أن يكون جهد القلة المخلصة أو تبرئة للذمة من البعض.
وهذا ما يجعلني أطرح السؤال الذي طرحته أكثر من مرة عبر ما أقوم به من جهد متواضع مع آخرين: هل نحن حقاً أمة واحدة؟
لندن – عشية 12سبتمبر 2018
——————————-
الترجمة العربية للقصيدة من الإنجليزية لكاتب المقال.
fjamma16@yahoo.com