قبل أن تقرأ هذه السطور:
• كتبت هذه السطور في البداية لموقع منتديات القضارف الالكتروني قبل 12 سنة ،ثم أعدت نشرها عدة مرات بعد ذلك لمواقع ومناسبات مختلفة،وأعيد نشرها هنا في الذكرى الرابعة والخمسين لثورة أكتوبر ، بعد تعديلات طفيفة في كل مرة بلا جديد يضاف. حذفت منها هذه المرة بعض الأجزاء التي قدرت أنها ليست ضرورية.
- لست مؤهلا للكتابة عن ثورة أكتوبر من موقع المشارك أو المشاهد لأني كنت وقتها ، اضافة لصغر سني ، قادما جديدا للجامعة ولكل الخرطوم من حنتوب ومن قبلها من القضارف، قليل الوعي السياسي محدود الأفق والثقافة والمعرفة. أكرمني الله سبحانه وتعالى بلا حول مني ولا قوة بحضور ندوة الاربعاء 21 أكتوبر 1964 فقط بحكم وجودي الجغرافي في ذلك المكان والزمان. كنت شاهدا على الحدث وليس صانعا له.
• هذه السطور في مجملها مشاهدات وانطباعات وذكريات قد يمثل بعض منها رؤية شخصية، وسأكون سعيدا جدا إن كان فيها إضافة لاي أحد.
- أعتذر لمن يشرفني بمطالعة هذه السطور عن التكرار (الممل أحيانا).
الجو العام الداخلي
مدينة حلفا قبل الغرق
قبل اندلاع الثورة كانت المآخذ على سلطة نوفمبر العسكرية تتلخص في الآتي:
• اتجاه الحكومة العسكرية لتصعيد الحل العسكري لمشكلة الجنوب بسياسة الأرض المحروقة لم يجد القبول ولم يصب النجاح.
• أفرطت السلطة في قمع الحريات وحربها على النقابات العمالية والاتحادات الطلابية ودخلت في صراع لا ينتهي معها.
• معالجة النظام لقضية مياه النيل كانت سيئة للغاية تمخض عنها اتفاقية مياه النيل عام 1959م وإغراق وادي حلفا وتهجير سكانها بشكل مضر بمصالح البلاد الاستراتيجية وما صاحب ذلك من ممارسات فاسدة في تشييد خزان خشم القربة ومدينة حلفا الجديدة.
• وقف النظام حليفا قويا لهيلاسلاسي امبراطور أثيوبيا ، وقام بتسليمه منقستو نواي قائد المحاولة الانقلابية التي جرت في أثيوبيا ولجأ للسودان فأعدمه هيلاسلاسي، وكان النظام كذلك عونا لهيلاسلاسي على الثورة الإريترية التي بدأت في ذلك الوقت والتي يتعاطف معها الشعب السوداني تقليديا.
• موقف النظام السلبي من ثوار الكونغو والتسبب في مقتل الثائر باتريس لومومبا رئيس وزراء الكونغو عام 1961م.
• صحيح أن النظام أنجز بعض المشاريع التنموية والتجميلية لكن ذلك تم في غياب خطط تنموية مدروسة ولم تنعكس هذه المشاريع على التنمية عموما ، وبعضها أقيم بناء على تصورات ودراسات خاطئة مثل مصنع ألبان بابنوسة ومشروع خزان دلسة ومصنع البصل في كسلا ومصنع الكرتون في أروما.
• عدم وجود توجهات حقيقية لدى النظام لإعادة الديموقراطية وإجراء انتخابات نيابية حرة، فقد عمد النظام إلى ابتداع نسخته الخاصة من “الديموقراطية” فأقام ما أسماه بالمجلس المركزي الذي كان كيانا تشريعيا صوريا قاطعته الجماهير.
• فشل النظام في استقطاب أي سند جماهيري أو أي جماعة ناشطة مؤثرة، فبقي في عزلة.
• بالرغم من طهارة اليد والمسلك التي كان يتسم بها أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحاكم والوزراء عموما فإن الشبهات والإتهامات لاحقت إثنين من العسكريين .. اللواء محمد أحمد عروة وزير التجارة الذي يشتبه في محاباة أقاربه وتقديم تسهيلات خاصة لهم، و اللواء المقبول الأمين وزير الداخلية الذي يشتبه هو الآخر في ممارسته أفعالا شخصية غير مقبولة.
الأجواء الإقليمية والدولية
لم يكن السودان بمعزل عن الحراك النضالي وجو التحرر الوطني والنضال من أجل الحريات والثورات والتغيرات التي كان يعيشها العالم آنذاك:
• كان المعسكر الإشتراكي بقيادة خروتشوف في عنفوانه وكان له قصب السبق خصوصا بعد نجاح يوري قاقارين في القيام بأول رحلة للفضاء الخارجي،
• وكانت مجموعة دول عدم الإنحياز في أوجها تحت قيادة قادة أسطوريين من دول العالم الثالث،
• وكانت منظمة الوحدة الأفريقية في بدايتها وجاءت تتويجا لجهود القادة الثوريين في أفريقيا
• وكان العصر عصر القيادات التاريخية العملاقة التي ناصرت حركات التحرر الوطني ووقفت في وجه المعسكر الراسمالي فكان هناك تيتو في يوغسلافيا، أحمد سوكارنو وإيديت في إندونيسيا، نهرو وكريشنا منون في الهند، فيديل كاسترو وتشي غيفارا في كوبا، ماو تسي تونج وشواين لاي في الصين، موديبو كيتا في مالي، كينيث كاوندا في زامبيا، جوليوس نايريري في تانجانيغا، أحمد سيكوتوري في غينيا،كوامي نيكروما في غانا، ملتون أبوتي في يوغندا ، هو شي منه وجياب في فيتنام، المهدي بن بركة في المغرب ، أحمد بن بيلا في الجزائر وجمال عبدالناصر في مصر.
• وكانت أفريقيا تعيش أعقاب ثورة لومومبا وثورات التحرر الوطني في جنوب أفريقيا وغينيا بيساو والرأس الأخضر وموزمبيق وأنجولا وناميبيا وإرتيريا ، وثورات فيتنام وكمبوديا ولاوس المسلحة التي يدعمها المعسكر الإشتركي
كان لكل ذلك تأثيره ، ولم يكن السودان جزيرة منعزلة عن الأفكار ورياح الثورات.
مواقف القوى السياسية والتنظيمات المختلفة
عبدالرحمن المهدي
علي الميرغني
• كانت النقابات والإتحادات الطلابية دائما رأس الرمح في الصدام ضد النظام العسكري.
• شاركت الأحزاب السياسية بصفة عامة في مقاومة الحكم العسكري (الأمة والوطني الإتحادي والشيوعي) إلا أن معارضة الحزب الشيوعي كانت أشرس وأكثر تنظيما واستمرارية، لكنه رغم ذلك ارتكب خطأ استرتيجيا بقبوله الدخول في المجلس المركزي (لمعارضة النظام من الداخل). حزب الشعب الديمقراطي “الذي انشق في 1957 من الوطني الإتحادي ثم عاد إليه عام 1967م فيما بعد تحت اسم الاتحادي الديمقراطي كان مواليا للنظام. السيدان علي الميرغني ، زعيم طائفة الختمية، وعبدالرحمن المهدي، زعيم طائفة الأنصار، باركا الانقلاب مع صدور بيانه الأول. الإخوان المسلمين كانوا معارضين شرسين للنظام داخل الاتحادات الطلابية ، ولربما لهذا سعوا فيما بعد بسجلهم الخالي من مقاومة النظام كتنظيم سياسي خارج الوسط الطلابي، سعوا لتجيير مشاركة الرشيد الطاهر بكر المرشد العام للجماعة آنذاك في محاولة علي حامد الإنقلابية عام 1959م لصالحهم. يذكر التاريخ أنهم حاولوا ثني الرشيد عن المشاركة في الانقلاب الذي أصبح مكشوفا للسلطة، ولما أصر الرشيد على المشاركة طلبوا اليه المشاركة باسمه وليس باسم الجماعة حتى لا يجر عليها تبعات فشل الانقلاب. بعد ذلك عارضوا في برلمان 1965 محاكمة قادة انقلاب نوفمبر في حين كان الرشيد يقف مع المحاكمة فكان الفراق الأبدي بين الرشيد وجماعة الاخوان المسلمين، وكان الترابي قد حل محل الرشيد في قيادة الاخوان المسلمين عقب سجن الرشيد وظل ممسكا بهذا المنصب بمختلف مسمياته حتى رحيله. انتهت المحاولة الانقلابية بإعدام قادتها العسكريين علي حامد، عبدالبديع علي كرار، الصادق محمد الحسن، يعقوب اسماعيل كبيدة وعبدالحميد عبدالماجد وسجن آخرين من بينهم الرشيد الطاهر بكر وشقيقه اليوزباشي عبدالله وقد سجنا لخمس سنوات. سجن لفترة أطول الصاغ عبدالرحمن إسماعيل كبيدة ، الشقيق الأصغر ليعقوب ،وكان عبدالرحمن قد قاد أول محاولة انقلابية في السودان عام 1957م ضد حكومة عبدالله خليل فسجن ثم أطلق سراحه عسكر نوفمبر ليشارك في محاولة أخرى. كان اسمه ضمن قائمة المحكوم عليهم بالإعدام لكن الفريق عبود خفض العقوبة للسجن المؤبد لكي لا يتم اعدام شقيقين في وقت واحد. ويسجل التاريخ أن عبدالرحمن كبيدة سعى في شجاعة بالغة وبشتى السبل لكي يفتدي شقيقه الأكبر يعقوب لأن يعقوب رب اسرة ، ولكن دون جدوى وظل في السجن حتى أفرج عنه بعد ثورة أكتوبر. في عهد مايو عين مديرا عاما لمؤسسة السياحة السودانية وقام عام 1973م بتعييني موظفا في المؤسسة رغم أني كنت معتقلا سياسيا سابقا ومفصولا من الخدمة بسبب “التطهير” أو “الصالح العام” بلغة هذه الايام، وتوعدني جعفر بخيت وزير الحكومة المحلية بعدم العودة للعمل في أي وظيفة حكومية مرة اخرى. قبول كبيدة للتحدي وتوظيفه لي جميل يطوق عنقي إلى يوم الدين. رافقت كبيدة في مؤتمر اتحاد السياحة العربي في طنجة عام 1976م وكانت تجربة جديدة ومثيرة، وكان كبيدة مشرفا لي ولكل الوطن عندما قدمته الوفود المؤتمرين ليتحدث نيابة عنها،فقد كان لبقا متحدثا ، وسيم المظهر والكلمات ،يتقن الإنجليزية والفرنسية بجانب العربية إضافة إلى أنه فنان تشكيلي،طيب الله ثراه وأسكنه فسيح الجنان. وتشرفت في ذات المؤتمر بالمشاركة مع آخرين(بفتح الراء) في صياغة القرارات والبيان الختامي.
خلفية شخصية
التحقت بكلية الآداب في جامعة الخرطوم في أغسطس 1964م وكان ذلك يشكل لي نقلة حضارية وأكاديمية كبيرة ، فقد جئت من حنتوب وقبلها من القضارف الأميرية وكنت في ذروة الدهشة والصدمة. كانت الدراسة تحت سقف واحد مع الطالبات من أكثر الأشياء المثيرة للدهشة لم أكن منتميا لتنظيم سياسي.،وكان مجتمع الجامعة يختلف كثيرا عن سنوات حنتوب بانضباطها الخانق الذي كثيرا ما كان يتجاوز المعقول.
كانت الجامعة تعيش تلك الأيام حراكا أدبيا واسعا ترفده القامات الشعرية الطويلة مثل عبدالله جلاب وتيراب الشريف (دفعتنا)، وعبدالرحيم أبوذكرى والأمين بلة ومحمد تاج السر ومحمد عبدالحي وعلي عبدالقيوم (دفعات سابقة لنا).
حينما اشتعلت شرارة ثورة أكتوبر بعد مضي نحو شهرين من وصولي للخرطوم كنت ما أزال غارقا في دهشة المكان والمجتمع من حولي.
تداعيات الأحداث
• الصراع بين سلطة نوفمبر العسكرية واتحاد طلاب جامعة الخرطوم قديم قدم تلك السلطة نفسها. في عام 1963 صدر قرار بأن تتبع جامعة الخرطوم لوزارة المعارف فعمت الإضرابات مؤسسات السودان التعليمية فجمد القرار ثم اضطرت السلطة وإدارة الجامعة للإعتراف بالاتحاد بعد أن كانت قد سحبت اعترافها به فترة من الزمن.
• تصاعد العمل العسكري في الجنوب زاد من تعقيد المشكلة وارتفاع أصوات الرافضين فعقدت جمعية الفلسفة التابعة للإتحاد ندوة في قاعة الامتحانات في أواخر سبتمبر 1964 تحدث فيها عدد من المتحدثين من بينهم الأستاذ عابدين اسماعيل المحامي والدكتور حسن الترابي ،أستاذ القانون في كلية الحقوق، وأمنوا جميعهم على أن مشكلة الجنوب لن تحل عسكريا ولن تحل في ظل نظام عسكري ، فحظرت السلطة تداول مشكلة الجنوب في الصحف أو على المنابر، فتقدم الإتحاد بمذكرة للسلطة العسكرية يؤمن فيها على احل السلمي للمشكلة ويطالب العسكر بالعودة للثكنات. قامت السلطات باعتقال أعضاء اللجنة التنفيذية العشرة وكان رئيسها حافظ الشيخ الزاكي من الإتجاه الإسلامي وأمينها العام جلال الدين الطيب من الجبهة الديموقراطية. (كان الإتحاد يعمل بنظام التمثيل النسبي وذلك يضمن عدم انفراد تنظيم واحد بالهيمنة على القرار وتمثيل كل وجهة نظر في المجلس الاربعيني حسب عدد أصواتها. نظام التمثيل النسبي هذا انتقل من جامعة الخرطوم لإسرائيل مع إدخال بعض التعديلات عليه هناك. وهذا موضوع آخر.
• قامت لجنة بديلة برئاسة ربيع حسن أحمد من الإتجاه الإسلامي وأمانة الشيخ رحمة الله من الجبهة الديموقراطية وقررت عقد ندوة في دار الإتحاد يوم الأربعاء 14 أكتوبر لمناقشة نفس قضية الجنوب يقتصر الحديث فيها على أعضاء الإتحاد ولكن في ذلك اليوم غمرت إدارة الجامعة (النجيلة) في دار الإتحاد والجامعة بالمياه فألغيت الندوة.
• جرت العادة أن يقوم الإتحاد بطرح القضايا الهامة على الطلاب بشكل مباشر في داخلياتهم، وكان كل الطلاب يسكنون في الداخليات حتى أبناء الخرطوم منهم ، ما عدا قلة قليلة، (وطبعا كانت الداخليات شيئا مختلفا تماما عن الذي نشاهده اليوم). كان أعضاء المجلس الأربعيني يتوزعون على الداخليات في فترة ما بعد الغداء حيث يجتمع سكان الداخلية في صالة كبيرة أو أمام الداخلية ويطرح عضو المجلس الأربعيني بشرح القضية المعينة ويقوم الطلاب بمناقشتها ومن ثم التصويت إن كان الأمر الأمر يتطلب تصويتا ، ويدير عضو المجلس الأربعيني الإجتماع وغالبا لا يشارك في النقاش أو التصويت ، ويجوز للطلاب الخارجيين(الذين لا يقيمون في الداخليات) حضور مثل هذه الإجتماعات في أي داخلية. عقد اجتماع ذلك اليوم الذي ضم ساكني عدد من الداخليات في صالة داخلية كسلا لاستفتاء الطلاب حول خياري عقد ندوة أو الخروج في مظاهرة وأذكر أنني أدليت بصوتي لخيار المظاهرة (كان طلاب السنة الأولى آنذاك لا يشاركون في انتخابات الإتحاد) . كنت أعتقد أن قيام الندوة عمل مسالم سيؤدي لإغلاق الجامعة وموت القضية. كنت من جانب آخر تواقا لتجربة التظاهر والمصادمة فقد كنا في مظاهراتنا في حنتوب نقف أمام الشاطيء في مواجهة ودمدني ونظل نهتف حتى تبح أصواتنا ونحن في مأمن من القنابل المسيلة للدموع وهراوات وسياط الشرطة (كانوا آنذاك لا يطلقون الرصاص على المتظاهرين) ، ولكن كانت الأغلبية إلى جانب عقد الندوة. تصويتي كان خيارا شخصيا بحتا مثل معظم الحاضرين ولكن علمت فيما بعد أن الإتجاه الإسلامي كان وراء خيار الندوة في حين أن الجبهة الديموقراطية كانت تؤيد المظاهرة، ولا أعرف دوافع الطرفين، والله أعلم. وقف أحد زملائنا من السنة الأولى متحدثا، على غير العادة فقد كان الطلاب الجدد يكتفون بالإستماع، وقال إنه يود نيابة عن إخوته من الطلاب الجدد أن يعاهد الجميع أنهم سيكونون في مقدمة الصفوف . كان يتكلم بصوت جهوري قوي وبثقة شديدة. لم نفوضه للتحدث نيابة عنا ولكن حديثه كان طيبا على كل حال. كان ذلك الزميل الذي اختطف اسمنا،واختطف فيما بعد مع آخرين كل الوطن، هو الأخ مهدي ابراهيم. تقرر إذن عقد الندوة بعد السابعة مساء الأربعاء 21 أكتوبر 1964م في داخليات “البركس”.
• كان الجو في اليومين السابقين للندوة يشوبه التوتر وكانت هناك حالة من الهدوء الذي يسبق العاصفة. قبل يوم الأربعاء الموعود ذهبت في زيارة خاطفة لمولانا الشيخ عوض عمر الإمام في داره العامرة بذكر الله وقلوب المحبين ، في أم درمان، وقال لي ” ما تكون رأسا يقطعوك ولا ذيلا يطوك”. وأنّى لمثلي أن يكون رأسا ، وفي نفس الوقت لم يكن هناك ما يدعوني لأن أكون ذيلا.
• أخذت سيارات (كوامر) الشرطة المحملة بالجنود وهم في كامل عتادهم وعدتهم تتجمع منذ عصر يوم الأربعاء في مقر شرطة السفارات المجاورة للبركس. بعد السابعة مساء توافد الطلاب من داخليات الطب والزراعة والبيطرة والداخليات الأخرى خارج البركس ليتجمعوا كلهم في البركس. بالطبع لم يحضر جميع الطلاب ولكني أقدر عدد الحاضرين بحوالي السبعمائة. بدأت الندوة بعد الثامنة مساء في الفضاء الواقع شمال داخليتي عطبرة “أ” و “ب” والذي شغلته فيما بعد داخليتا التاكا وجبل مرة. كان الحاضرون والمتحدثون جميعهم من طلاب الجامعة . جلست مسترخيا على كرسي واضعا “رجل على رجل” وخلعت أثناء ذلك “مركوبي” لمزيد من الاسترخاء. بدأت الندوة. كان أول المتحدثين المرحوم آدم محمد آدم، من أبناء رفاعة والذي عمل محاميا فيما بعد في الحصاحيصا. وصلت طلائع قوات الشرطة من خلفنا أي من الجهة الشمالية. كانت المرة الأولى التي يبلغ فيها عنف الدولة في السودان حد اقتحام الحرم الجامعي. خاطب قائد القوة الحاضرين يأمرهم بالتفرق. واصل آدم الحديث وواصل الحاضرون الاستماع وكأن شيئا لم يكن. فجأة انهمرت علينا القنابل المسيلة للدموع. حدث هرج ومرج وتدافع الطلاب في اتجاه الجنوب والغرب هربا من القنابل. شرقا كانت مدرسة التجارة الثانوية. هربت مع الهاربين. عزّ عليّ أن أفقد مركوبي وأوصف بأني (جريت وخليت نعلاتي) فقفلت راجعا إلى قلب الدخان حيث كنت أجلس ولحسن حظي عثرت على مركوبي بسهولة فانتعلته من جديد وكان أول تعامل مباشر لي مع الدخان المسيل للدموع الذي فعل فعله في عينيّ ووجهي وكان لاسعا حارقا. (أذكر أنني رايت فيما بعد عبوة من مخلفات القنابل المسيلة للدموع وكانت صناعة امريكية وكان مكتوبا على العبوة كلمات قرأتها بعيني رأسي “للكلاب والزنوج” For Dogs and Negroes. هل كانت هذه القنابل تستخدم فعلا للكلاب وتؤثر فيها أم إن الكلمات مجرد إفراط في العنصرية والتعالي ؟
• لم يكن أحد يتوقع أن تقتحم الشرطة ذلك المكان. كنا نتوقع انصرافهم بعد أن أمطرونا بقنابل الدخان. لكن المعركة لم تنته.. تقدم الطلاب من جديد للمصادمة تشعل فيهم زغاريد إخواتهم الطالبات الحماس. تعرفت على زميلتي عفاف ابراهيم المقبول وزميلتي مهيرة حسن بابكر من الحاضرات. صعدت الحاضرات من الطلابات إلى الطوابق العليا من داخلية كسلا وأخذن يصببن الماء من “الخراطيش” لغسل وجوه إخوتهن الطلاب لتخفيف آثار الدخان. لم يكن الطلاب صيدا سهلا. تقدموا وتلاحموا بأيديهم مع العسكر. تقهقر هؤلاء بعد أن كانوا يتعقبون الطلاب ويطاردونهم بين الداخليات. أصيب كثيرون بالجراح. استخدم الطلاب الحجارة والطوب وقبضات الأيدي في مواجهة الهراوات والسياط حتى قاربت الساعة الحادية عشر. انطلق الرصاص. كنا نحسبه “فشنك” ولكن اكتشفنا فيما بعد أنه رصاص حقيقي. أمام داخلية سوباط شمال غرب منطقة المعركة سقط أحمد قرشي طه شهيدا ، وكان شهيد الثورة الأول. كان عائدا لسنته الأولى في كلية العلوم ولم يسبق لي رؤيته وكان يسكن في داخلية الدندر التي حملت فيما بعد اسمه وكان عضوا في الجبهة الديموقراطية ولا أدري إن كان عضوا في الحزب الشيوعي أم لا. حوالي الحادية عشرة مساء توقفت المعركة بعد أن أصبح قبضات الأيدي والحجارة لا تجدي مع الرصاص. انسحب الجنود وجلس الطلاب يضمدون جراحهم.
• الأساتذة علي محمد خير وحسن الترابي وحسن عمر هم أول من دخل البركس لإسعاف الطلاب وحمل جرحاهم للمستشفى. عدت لغرفتي في داخلية الزراف ووجدت فيها زملائي الثلاثة (قريبي عمر فضل الله من الجزيرة وابراهيم ووالمرحوم يحيي من دارفور) سالمين. ثلاثتهم يسبقوني في الدراسة بسنتين. بعد منتصف الليل خلدنا للنوم ، وفي الصباح توجه كل الطلاب لمستشفى الخرطوم حيث يرقد الجرحى من الطلاب ومن بينهم بابكر حسن عبدالحفيظ شهيد الجامعة الثالث الذي توفي في نوفمبر متأثرا بجراحه أما شهيد الجامعة الثاني فقد كان مبيور أشول العامل في كلية الآداب الذي سقط أمام القصر الجمهوري فيما بعد. كان أول سياسي يزور المستشفى في الساعات الأولى من صباح يوم 22 أكتوبر هو اسماعيل الأزهري. تجمعنا أمام المشرحة. تصادف أن كان الشيخ رحمة الله سكرتير الإتحاد يجلس على الأرض على مقربة مني. كان ذلك العملاق الباسل مبتور الذراع اليسرى ولكن تلك الإعاقة لم تمنعه من التميز الإجتماعي والسياسي. كان شجاعا حتى النهاية. ما أغلى دموع الرجال ..رأيته يبكي بحرقة على القرشي.. أثرني المشهد فسالت دموعي. أبكتني بعد نحو عشر سنوات دموع رجل آخر هو ياسين عمر الإمام. كنا في داره في انتظار وصوله من سجن كوبر للمشاركة في تشييع كبرى بناته سمية التي توفت بمرض قلبي. سمح له بالخروج لساعات من معتقله أيام نميري. ما إن دخل داره حتى وقف يصلي ثم انخرط بعده ذلك في بكاء يمزق القلوب فبكيت وبكى كل من حوله . كان العسكري المرافق يبكي هو الآخر ويده ممسكة ببندقيته.. كان ذلك هو السودان قبل أن تطبق على أنفاسه الأزمنة الرديئة.
• لم يشارك إخوتنا الطلاب من أبناء الجنوب في الأحداث لأنهم انسحبوا من الإتحاد قبل سنوات بسبب خلاف حول تصرف ما لا ألم بتفاصيله. اكتفوا ليلتها بالتفرج على المعركة من الأدوار العليا في داخلية عطبرة رغم أن الناس يحتربون وتسيل دماؤهم بسبب قضيتهم ، لكنهم أكرهوا فيما على المشاركة دفاعا عن أنفسهم ، وفعلوا ذلك بعنف وشجاعة عندما حاول العسكر التحرش بهم.
• انضم لنا أمام المستشفى طلاب مدرستي الخرطوم الثانوية والتجارة الثانوية، الملاصقتين للبركس، ثم طلاب المعهد الفني (جامعة السودان الآن ) وطلاب معهد المعلمين العالي (كلية التربية في جامعة الخرطوم الآن) وبدأت تتوافد إلى المكان النقابات العمالية. وقبيل العاشرة صباحا جاء موكب أساتذة الجامعة بأروابهم المهيبة ، وشاهدت أستاذنا الباريسي الأنيق مسيو رافينو رئيس شعبة اللغة الفرنسية وكان الغضب يكسي وجه حفيد مونتسكيو وفولتير وروسو بالحمرة وعينيه بالحدة، ورأيت كذلك أستاذنا النيجيري أوقودا أستاذ العلوم السياسية. كانت جامعة الخرطوم أيامها تستهوي صفوة الأكاديميين العالميين.
- تحرك الموكب متجها نحو ميدان عبدالمنعم وهو يحمل جثمان الشهيد احمد قرشي لأداء صلاة الجنازة بعد أن افلح الطلاب في استخلاص الجثمان من المشرحة. سار الموكب في صمت بلا هتافات حتى بلغ مقصده حيث صلوا صلاة الجنازة ، وكانت هناك سيارة تتوسط الميدان يعتليها أساتذة الجامعة وبعض قيادات الإتحاد. تحدث أحد الأساتذة، لا أذكره، داعيا الخاضرين للتفرق وأنهم سيتابعون القضية، وبدا أن الأمر سينتهي عند ذلك الحد حتى أمسك بالمكرفون الدكتور علي محمد خير وحسن عمر وأطلقا هتافات أثارت المتجمهرين.. “سننتقم من القتلة.. إلى الجحيم ياعبود..” وكان ذلك كفيلا بإلهاب العواطف ومن هناك انطلقت المظاهرات الهادرة العنيفة الغاضبة لتعم المنطقة وتنتقل لكل العاصمة المثلثة.
• بعد المشاركة في المظاهرات أخذت طريق العودة مع زميل لي من أبناء المعيلق المرحوم عمر الشامي (وقد ترك بعد فترة الدراسة في الجامعة وسافر لإيطاليا لمزاولة هوايته في الرسم فقد كان رساما موهوبا وهو الذي صمم شعار سودانير واستقر في ألمانيا حيث توفي فيها مؤخرا) واستطعنا الوصول للبركس سيرا على الأقدام وتفادي تجمعات الشرطة التي كانت تتحرش بالطلاب. بعد ظهر ذلك اليوم أعلن وزير الداخلية بالإنابة اللواء محمد أحمد عروة حظر التجول وفي نشرة أخبار الثالثة قرأ المذيع محمد العبيد تعليقا سياسيا بعنوان “ماذا يريد طلاب جامعة الخرطوم؟” كتبه عبدالله رجب ، يهاجم فيه الطلاب ويتهمهم بالمراهقة ، وكان ذلك التعليق فيما بعد آخر عهد محمد العبيد بالعمل كمذيع ونهاية مؤسفة لعبدالله رجب كصحفي ارتبط في أذهان الناس بالدفاع عن قضايا الحرية (وذلك موضوع آخر)
• لم يشاهد الناس ربيع حسن أحمد رئيس الإتحاد وعضو الإتجاه الإسلامي. اختفى . قرأت قبل فترة في الصحف لعضو في لجنة نفس الإتحاد شهادة يدعي أن ربيعا كان خارج السودان وهو أمر غير صحيح على حد علمي فقد كان في السودان. ربيع حسن أحمد استضافت داره في المنشية فيما بعد في مارس 1989م اجتماع المجلس الستيني للجبهة القومية الاسلامية الذي أجاز الانقلاب العسكري الذي نفذ في 30 يونيو1989م. المهم أن العملاق النبيل الشيخ رحمة الله قام بذراعه المبتورة بدوره في سكرتارية الإتحاد كما يجب والمشاركة في صناعة الأحداث والتاريخ فتحمل المسئولية في شجاعة يذكرها له التاريخ. ولكن الشيخ انسحب من الأضواء بعد الجامعة وانصرف لممارسة مهنة القانون في الأبيض والخرطوم حتى اختاره الله تعالى لجواره بعد معاناة طويلة مع المرض. عليه رحمة الله ورضوانه.
• أغلقت الجامعة وبقيت في الداخلية حتى جاء أخي الأكبر يوسف للخرطوم ليصطحبني مع ثلاثة من أقاربنا للجزيرة حيث بقينا في مأتم أحد أعمامي وفي أيام المأتم كان خبر حل المجلس الأعلى للقوات المسلحة والنهاية الرسمية لنظام 17 نوفمبر العسكري. كنت دائما ودون قصد أتسبب في المتاعب والقلق لأخي يوسف ،عليه رضوان الله ورحمته، فقد خف لبورتسودان بعد ذلك بسنين ليقف على حالي وأنا في معتقلي في بورتسودان.
وأخيرا:
* في فترة حكم عبود وفي ليلة 21 أكتوبر وفي مطلع سنوات نميري عانى إخوتنا الإسلاميون من بطش الحكم العسكري وعرفوا سوءاته..ولكنهم نكصوا على أعقابهم وانقلبوا على الحريات ونكلوا بمعارضيهم بما لم يفعله مستعمر أو حاكم وطني من قبلهم وسقطت كل شعارات الطهر والتدين التي كانوا يرفعونها وأثبتوا أنها كانت شعارات مرحلية عاطلة من الصدق تماما.
- أشدنا تشاؤما من بين من أكرمهم المولى عز وجل بحضور ليلة الأربعاء 21 أكتوبر 1964 لم يكن يتوقع أن يبلغ سوء الحال في بلادنا ما بلغه اليوم.كانوا يتنافسون على أبوة ثورة أكتوبر والكل يدعي أنها من صنعه،واليوم لم يعد يذكرها أحد.
- رفعت ثورة أكتوبر شعارات نبيلة تضمنها الميثاق الوطني..استقلال القضاء.. استقلال جامعة الخرطوم.. الحل السلمي لمشكلة الجنوب..بسط الحريات العامة وغيرها من الأحلام الموؤودة. هذه الشعارات لم يتبق منها اليوم شيئا، فقد هزمت كل أهداف ومقاصد ثورة أكتوبر التي كانت ابداعا سودانيا خالصا ومنارة لكل الشعوب..
- لكن ثورة أكتوبر ستظل في ذاكرة التاريخ.