(1)
على حسب الأخبار المُتواترة، سَيعود للبلاد غداً الأربعاء 19 ديسمبر السيد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي بعد غيبةٍ اختياريةٍ طويلةٍ من البلاد.. دُون شك أنّ هذه العودة حَدَثٌ سِياسيٌّ كَبيرٌ يَستحق التّوقُّف.. فالسّيّد الصادق أصبح آخر شُيُوخ السِّياسة السُّودانية الذين بَزَغَ نجمهم بعد ثورة أكتوبر 1964، فقد كان رابع ثلاثة هم عبد الخالق محجوب وحسن الترابي والشريف حسين الهندي، وبما أنّ عبد الخالق والترابي كَانَا يَقُودان القوى الحديثة فلم يتجاوزا مَرحلة جماعة الضّغط، أصبح الصادق والهندي المُرشحين لرئاسة البلاد وورثة جيل الاستقلال (الأزهري والمحجوب وآخرين)، هذا إذا استمرّت التّجربة الديمقراطية الليبراليّة، ولكن عبد الخالق ثُمّ الترابي فيما بعد قطعا التجربة باللجوء للجيش وهذه قصة أخرى.
لقد ظهر الصادق بعد أكتوبر بنفسٍ جديدٍ في السِّياسة السُّودانية، فهو الوحيد الذي طبّق (لا زعامة للقدامى)، فسعى لتطوير حزب الأمة وفصل الإمامة عن الرئاسة، وفي الأشهر التي تَوَلّى فيها الحكم طَرَحَ برنامجاً سندكالياً مُتقدِّماً، وبعد إسقاطه كَوّنَ تَجمُّع القوى الجديدة مع الترابي ووليم دينق فكان أول لقاء شمالي جنوبي طوعي.
في تقديري أنّ تجربة السّيّد الصادق الأكتوبرية كَانت أعظم تجاربه وأكثرها ثراءً وبضياعها، ضاعت على البلاد فُرصة للتقدم والنماء.
(2)
رغم أنّ الإنقاذ كانت انقلاباً على حكمه، إلا أنّ السيد الصادق عارضها بعقلانية وموضوعية، وظَلّ دَاعياً للحوار طِوالَ العُقُود الثلاثة بغض النظر عن الحالة التي هو فيها حراً طليقاً أو من وراء القضبان أو متجولاً في الخارج، ولكن المُشكلة في أنّ لواء المُعارضة لم ينعقد له، فمواقفه الوطنية واستقلاليته واعتداده برأيه جعلت المُعارضين للإنقاذ والداعمين لهم من دول ومُؤسّسات خارجية ينظرون له بعين الشك والريبة، فمثلما لَم تَسمع الإنقاذ له وتُصَعِّر خَدّهَا له، كَانَت المُعارضة كَذلك ومع ذلك ظَلّ يُقدِّم الأُطروحة تلو الأُطروحة لإخراج البلاد من مأزقها وفي نكران ذات، وقد سبق لي أن وصفته بأنّه أصبح مثل أم الولد في قصة المرأتين اللتين اشتجرتا على أمومة طفل فاحتكمتا لقاض ذكي فقال لهما بأنه سوف يشقه إلى نصفين.. وبقية القصة المعروفة.
(3)
يعود السيد الصادق اليوم ليستقر ببلاده التي عشقها وأفنى سنوات عُمره في حُبِّها وهو يتأبط تجربة طَويلةً ثرّة وعلى ظَهره أكثر من ثَمانية عُقُودٍ من الزّمان كُل هذا يجعله مستودع حكمة، فالترحيب به فرض على الجميع حُكومةً ومُعارضةً و(الناس ساكت).. وفي ظنّي أنّ للسيد الصادق المهدي كلمةً أخيرةً يُود أن يصدح بها لمصلحة البلاد والعباد، أقد يكون هذا تفكيراً رغائباً منا wishful thinking) )، حيث أنّني أتمنّى أن يُقدِّم السّيّد الصادق خلاصة تجربته في وصفة سياسية تصلح أن تكون خارطة طَريق بغض النظر عَمّن يُنفِّذها.. سائلين الله تعالى طول العُمر للسّيّد الصادق وإقامة مُنتجة سعيدة، وللبلاد الحفظ والسَّلام، وللعباد الأمن والطمأنينة.