الارهاب يضرب من جديد، لا يفرق بين البشر، يُسيل الدماء بأعمال جنونية حاقدة، ومن دون وازع من ضمير يدمر حياة الناس، يقتل من كان موجودا في المكان، سواء كان مسلماً أو مسيحياً أويهودياً، كلهم بشر، يحق لهم أن يتمتعوا بحياتهم الآمنة المطمئنة، لكنهم عند الارهابيين سواسية، يستحقون الموت في لحظات الفرح، ولأن الارهابي لا ضمير له أو دين ، فانه يقتل ويصيب الأطفال، مثلما يذبح الشيوخ والنساء والشباب، إنه يهدر دماء الأبرياء، فالإرهابيون في كل زمان ومكان، ومن كل لون وجنس ودين يهدفون الى إحداث هزة و صدمة عنيفة وانقساماً في المجتمعات، والهدف الأكبر يكمن في سعيهم الى اثارة الأحقاد والكراهية والفتن بين الناس.
مانشستر ضربها الارهاب الغاشم ليل الأثنين الثلاثاء 22 مايو 2017، أشعر بحزن وألم شديد ومضاعف، مانشستر احتضنتني بمحبة وود، وحمتني ووفرت لي سبل العيش الكريم، بعدما غادرت الدوحة بعد 31 عاما الى لندن مضطراً، في الدوحة عملت صحافياً في مؤسسات اعلامية قطرية، ومراسلا ومديرا لمكتب صحيفة ” الحياة ” اللندنية، ومراسلا لإذاعة مونت كارلو الدولية.
نظام الرئيس عمر البشير الديكتاتوري المستبد لم يهدأ له بال حتى نجح في ابعادي من الدوحة، عبر شكاوى متعددة ، قديمة ومتجددة قدمها لمسؤولين سياسيين وأمنيين قطريين منذ انقلابهم المدمر لحياة السودانيين في الثلاثين من يونيو 1989، بشأن أخبار وحوارات مع معارضيين سودانيين ، وتحليلات نشرتها في صحيفة ” الحياة “، وآراء طرحتها بوضوح في ندوات عن ممارسات نظام الخرطوم الظالمة، وكان النظام الديكتاتوري يرى أنني مقيم في الدوحةو انتقد الحكومة السودانية، وأخيراً وجد رأس النظام وأدواته التجاوب، فواجهت ضغوطاَ وتعرضت لظلم باساليب ” غريبة عجيبة”، فغادرت الدوحة الى لندن.
ما تعرضت له في الدوحة كان أيضاً نوعاً من الظلم، والارهاب القاسي الذي يشبه النظام السوداني، الذي شردني وشتت شمل أسرتي، لكن بريطانيا البلد الديمقراطي الذي تحكمه سلطة القانون، والمؤسسات، ويحترم حقوق الانسان، والصحافيين، ويحميهم، ويوفر لهم مناخ التنفس الطبيعي احتضنتني في مانشستر في ظروف شديدة الصعوبة والتعقيد ، لا يعرف قسوتها الا من ذاق طعم اللجوء المرير في مثل عمري، وخصوصاً أنني لم أفكر في طلب اللجوء على مدى سنوات، خلال زيارات عدة الى لندن ابتداءا من العام 1986.
أكرر، ما جرى في مانشستر التي تقع في شمال غرب انجلترا أصابني شخصيا بألم ووجع عميق، ما نشستر مدينة جميلة رائعة ،ووديعة وهادئة وآمنة، ولها تاريخ عريق، وأسمها يحمل نبضها وروحها ، ورغم أن هناك أكثر من تفسير لمعنى اسمها الا أنني أحب معنى ” الأم”، وبحسب المعلومات المتداولة فان كلمة “كايستر باللاتينية ceaster)) من الإنجليزية القديمة تعني “بلدة التل”، ويوجد تفسير آخر يقول إن أصل التسمية من اللغة “البريثونية” وتعني الأم”.
مانشيستر ” أم” بالفعل، وهي كلندن و مدن بريطانيا وريفها الجميل ، تحتضن الناس من كل بقاع الأرض وتصون حياتهم وفقاً للقانون ، الأم تحب ولا تكره ، تحتضن ولا تبغض، تشيع المحبة والمساواة بين الناس من كل الألوان والأديان، ولهذا كله، بل مبدئياً أدين في شدة أي عمل ارهابي لا إنساني يصيب مانشستر أو لندن، أو أي موقع في المملكة المتحدة، أو اي مكان في العالم ، وأدعو الى تكاتف وتعاون الجميع، وخصوصاً الجاليات- وبينها الجالية المسلمة- مع الحكومة البريطانية، لإشاعة أجواء الاستقرار والتضامن والمحبة، و مواجهة الإرهاب والارهابيين، الذين يريدون تحويل حياة الناس من مجتمع أمن مستقر متكاتف، تحكمه سلطة القانون، الى مجتمع يسوده الخوف والفزع والشكوك.
أثق أن ما نشستر ستتجاوز حزنها ووجعها وتمسح دموعها الغزيرة الحارة ، لتبقى -كما هي-أكثر قوة وشموخاً وتسامحاً ،لتواصل مسيرتها الواثقة، وستبقى تلعب دورها باعتبارها من أهم المدن الصناعية في بريطانيا وأوروبا، وستبقى مشهورة وجاذبة لعشاق العلم والتعليم في جامعات “مانشستر” و”مانشستر متروبوليتان” و”جامعة سالفورد”، كما ستبقى موقعا لافتاً للسياح بمتاحفها الغنية بالتراث البريطاني والانساني، وبمناطقها السياحية الجميلة.
ستبقى مانشستر قبلة لعشاق الرياضة والمحترفين، لينسجوا ويرددوا أنغام النصر في أنديتها الرياضة العريقة، وبينها ” ما نشستر يونايتد”و” ما نشستر سيتي”، وستواصل “ما نشستر العظيمة” احتضانها للناس من كل الأديان وبينها الجالية المسلمة التي وفرت لها بريطانيا حرية العقيدة، التي تبدو مظاهرها واضحة في المساجد والمآذن المنتشرة في أماكن عدة، وفي الندوات.
وهاهي رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي تجدد التأكيد في خطاب القته اليوم عن الحادث الارهابي المروع عبر شاشات ” بي بي سي” وغيرها من الفضائيات أن “الارهاب لن يفوز”، وهي أكدت ايضا ًأن ” جُبن المهاجم قابلته شجاعة الشرطة، وأن محاولات تقسيمنا قابلتها محاولات إظهار العطف والحنان”.
كلام ماي يعكس بقوة نبض مجتمع ديمقراطي تحكمه سلطة القانون ويحترم التعددية بكل أشكالها وأنواعها، ويرفع أعلام التضامن والمحبة، ويتمسك بها – على رغم الجرح الغائر في الاعماق، إنها روح بريطانيا العظيمة.. الحكيمة.. العاشقة لحقوق الانسان.
هذا درس بريطاني جديد تقدمه مجددا رئيسة الحكومة (حزب المحافظين) تيريزا ماي، كما يقدمه زعيم حزب ” العمال” المعارض جيرمي كوربن الذي شدد على التضامن والنبض البريطاني الواحد ، وكذلك تحدث باللغة نفسها قادة احزاب أخرى ، هم جميعاً في لحظات الحزن والألم يتمسكون بسيادة القانون ونبض التضامن وروح المحبة ولا يوزعون الاتهامات العشوائية، أو عبارات التهديد للآخرين من دون دليل أو برهان، كما يفعل الرئيس البشير ومن لف لفه بمناسبة وبدون مناسبة.
الدرس البريطاني القديم المتجدد، يحتاج الارهابيون و الطغاة أن يتعلموه، وخصوصاً من يحكمون الناس بلغة الحديد والنار في السودان، الارهابيون والطغاة محتاجون لتعلم الدرس من روح التضامن والقيم الانسانية البريطانية التي تعلي من شأن الانسان أيا كان لونه أو دينه، وحتى لو إختلفوا معه في الرأي والمعتقد ، أي علي القتلة في كل مكان أن يوقفوا القتل وعمليات تشريد البشر وحملات الاعتقالات ومصادرة الحريات، وممارسة اي نوع أو شكل من أشكال الاذلال للإنسان.
للارهابيين باختلاف أنواعهم ومسمياتهم، وللطغاة في السودان أقول.. أوقفوا زرع بذور الانقسام والكراهية بين الناس…