لازلتُ أذكر تلك الأيام الجميلة حين يقترب شهر رمضان وحيث يكون الإستعداد لقدومه يجري على قدمٍ وساق؛ بدءً من تجفيف اللّحم (الشرموط) والذي يستعمل في عمل ملاح التقلية -الآن حل اللحم المفروم محل الشرموط- وإنتهاءً بعواسة الآبري..والعواسة دي كانت هي برنامج نساء الحلة المشهود قبيل رمضان..إذ يجتمعن كل يوم في بيت إحداهن للعواسة..ثم ينتقل البرنامج لبيت آخر في اليوم التالي..وهكذا حتي قُبيل دخول شهر الصيام..
يوم العواسة يكون مهرجاناً كبيراً تلتقي فيه العائلات وتكون الحبوبات في ذلك اليوم مثل (الكوتش) الكبير ، يصدرن التعليمات والتوجيهات ويُدِرن يوم الآبري بكل إقتدار.. ونحن كنّا صغاراً ننتظر الآبري الطازج لنلتهمه إلتهاماً..
في أمدرمان كان هناك (مدفع رمضان) وكان يتوسط ميدان المدرسة الأهلية..يجلجل صوته ساعتي الإفطار والإمساك، وظل هذا التقليد قائماً حتى زمن الريس نميري الذي أسكته لكثرة المحاولات الإنقلابية في عهده.. إعتزل نميري السياسة بعد الإطاحة به وبعدها بسنوات إعتزل الحياة الفانية كلها ومازال المدفع صامتاً !!!
معظم السودانيين، حتى غير المصلِّين، لا يفرِّطون في صيام شهر رمضان أبداً، ربما لأن الصيام إرتبط بمظاهر (الرّٙجالة) عند بعض الناس..بل وحتى من يُعاقر الخمر منهم تجده تائباً صائماً مُصلياً في رمضان ومن هنا جاءت عادة ما يُسمي (خم الرماد) عند هذه الشريحة.. ومما أورده بابكر بدرى فى كتاب (حياتى) أن أحد أهل البادية أتى شاكياً للمأمور المصرى قائلاً له إنّ أحداً قد (نبّٙزُو نبٙز كعب خلاس) وقال ليهو (كلِب فاطر رمضان) فقال المأمور ( أيه يعنى، ما أنا فاطر ) فقال البدوى ( هاى.. لاكين جنابك إنت ما …….) .. فطرده المأمور غاضباً ، وقال لجلسائه (هلكنى إبن الكلب)!!
كان الناس في أم درمان يصِفون الصائم إمّا ( أنه صائم صيام الضّٙب..البلقاهو كلو يقول فيهو چٙبْ أو صائم صيام السحلية يخليها لي العشية) والضّٙب هنا ليس هو كابتن محجوب الضّٙب لاعب الهلال في السبعينات بل هو الضب المنزلي (الوزغ) والذي يقول عنه حساس محمد حساس (د. محمد عبد الله الريح) إن وجوده في البيت ضروري.. وإذا أضفنا إليه سحلية ليعمل الضّب في الدوام الصباحي ثم تستلم السحلية الوردية المسائية فيقضيان معاً على الحشرات الطائرة والزاحفة..وربما هذا هو سبب التسمية فالضب “يلهط” نهاراً كل ما يجده..
أُشتهِر في أم درمان أنّٙ أكثر الناس حرصاً على صيام رمضان هم أهلنا الفلاتة وهؤلاء يطبِّقون حرفياً الحديث القائل (صُوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته..) وليس لهم أي (شٙغٙلة) بمجلس الإفتاء أو فلكيات دكتور شدّاد..الفلاتة يصومون رمضان بإخلاص وتقوى.. وهناك من يقول إن هذا ما أثار عليهم حفيظة أهلنا الحلفاويين لإعتقادهم بأن الفلاتة هم أصلاً (من أتٙوا لأهل السودان بهذا الرمضان) !!!! ومما يقال عن الحلفاويين أيضاً أنه بعد إنتفاضة أبريل إنضم صوتهم إلي المطالبين بإلغاء قوانين سبتمبر وأضافوا إليها (إلغاء شهر الصيام برضو)..ولذا فليس غريباً أن يُحكي عنهم أنه عندما قال لهم البشير في إحدي زياراته (إنّٙ الإسلام قد دخل إلي السودان من هذه البوابة) يريدهم أن يفتخروا بذلك فقالوا ليهو (وسوف يخرج منها أيضاً)..
وقراتُ مقالاً لإحدى الشابات الحلفاويات (لعلها د.ناهد قرناص) بأن حبوبتها كانت تعتقد أن صوم رمضان واجبٌ على الفتيات المتزوجات فقط.. ويُعزي ذلك إلى أن الحبوبة عاشت في زمن كانت الفتيات يتزوّجن في أعمار صغيرة مثل الثالثة عشرة والخامسة عشرة..وهي الأعمار التي يجب فيها الصوم.. ولذلك كانت تستشيط غضباً إذا لاحظت أي تراخٍ في صيام حفيداتها خلال نهار رمضان القائظ في مدينة عطبرة..وكانت عندئذٍ تصرخ قائلة (هوي برو ..ار الي لوقو مسي كاقي؟؟) ..وتعني (يا بت إنتِ جد جد صايمة؟؟).. رحِم الله تلك الحبوبة إذ أنها لم تحضر زمن (البايركس) في أزماننا هذه وإلا لكان سن التكليف للصوم (الحقيقي ) سترتفع الى نهاية العشرينيات والثلاثينيات من عمر الفتيات بكل أريحية..!!
من مظاهر التكافل الإجتماعي زمان في أم درمان وضع البروش في الشارع قبل المغيب لإفطار كل عابر سبيل..وهنا يُحكى أنّ أحد الأعراب قد مرّٙ بجماعة في أمدرمان لحظة الإفطار ودعٙوْه للإفطار الفاخر الذي يتوسطهم. وسلّٙمه أحدهم (حلو مر) باااارد قائلاً إتفضل يا حاج.. وبعد بضعة لقيمات قدم له آخر كورة الحلو مُر مرة ثانية.. وعندما قُدمت له كورة الحلو مُر للمرة الثالثة والحاج عينه في الجوافة والمنقة والقمردين قال لهم ( من هُلُو مُر الهٙمدُ لله) وأهل أمدرمان ما زالوا يقولون إلى اليوم عندما يتعبون من تكرار شئٍ مّٙا ويطالبون بالتغيير:- (من هُلـُو مُر الهٙمدُ لله)..
إذا كان الحلو مُر والعصيدة والبليلة هي الأركان الأساسية في مائدة الإفطار في رمضان فإنّٙ الركن الرابع بلا منازع هو الثلج..ففي سابقات الزمان كانت الثلاجات غاليه جداً وكانت معظم الأسر تشتري الثلج، ويقال إن ثمن ثلاجة واحدة كان يساوي ثمن ٣ قطع سكنية في مدينة الثورة والتي كانت تحت الإنشاء..ومن هنا جاء المثل الأمدرماني( البوبار وفك الزِّرار والتلاجة في بيت الإيجار)..
كانت مراكز بيع الثلج قرب المحطة (الأوسطى) جنب محلات الطيب خوجلى حالياً والحلواني محمد برعي المصري في السابق..ومن أشهر بيّٙاعي الثلج العم سليمان، وكان دكانه يمتلئ قبل المغرب بالزبائن من كل الأعمار..هنا يقال أنه تصادف أن أحد زبائنه كان شايقياً وقد اثار جٙلٙبة في المحل بحجة أنّٙ لوح التلج كان مكسور ولم يقتنع بأي حُجة ساقها له العم سليمان بأن لا فرق بين اللوح المكسور وغير المكسور..عندها تدخل أحد مساعدي العم سليمان وكان رباطابياً ، وسلّٙم الشايقي لوح ثلج آخر قائلاً (هاك واحداً سالم ..بِدُّور تسوِّي عٙتٙب !!) ..
سخانة رمضان هذه السنة ذكرتني بطُرفة حدثت في وفاة في حي الشفايعة بالقلعة.. والشفايعة من الأسر العريقة بأمدرمان وترجع أصولهم إلى غرب السودان وأُشتهروا بالتعليم العالي بخاصة في مجال الطب ومنهم أستاذنا في كلية الطب مستر عبد المنعم الشفيع..وإن كانت أغلبيتهم من (الأوبسنجية) أي أخصائيي النساء والتوليد..
الناس واقفة في شمس شهر يونيو وصايمة والجثمان تأخّٙر في الخروج كثيراً ، حينها قال ظريف أمدرمان أحمد داؤود (إنتو الفور ديل أكلُوا جنازتهم ولا شنو؟!) ..ورغم حرج الموقف وحزنه فقد ضجّٙ الجميع بالضحك، وأوّلهم أصحاب الفراش..
ويُروي عن أحد ظرفاء أهلنا الرُّباطاب قال بأن رمضان هذا العام صعبٌ ومرير وكدنا أن نموت ( لو ما جغيمات الوضوء التي نلعقها مع كل صلاة دي )!!وأذكر هنا طُرفة عن مسطول كان صائماً وكانت الساعة ثلاثة ظهراً والسخانة (تٙقْلى الحبة) كان هو مشغِّل الراديو بيسمع برنامج ما يطلبهُ المستمعون ..قام إتصل وقال للمذيعة ممكن أطلب ؟؟ قالت ليهو المذيعة إتفضل..قال ليها ( ممكن بالله مقطع صغيًٙر من آذان المغرب؟!)
وهذه الطرفة نفسها تذكرني بمريض أيام كنت أقضّى فترة الإمتياز بمستشفى أم درمان.. وكان هو من (أصحاب المزاج) قال لي بانه ساعة الإفطار دي بكون ماسك (الشحرورة) بيدو منتظراً الآذان بفارغ الصبر..!!
وهناك نفر من الناس يعتقدون أن التمباك أو الشيشة لا تبطل الصوم طالما أنها لا تصل إلي المعدة..بل وتساعد على الصيام لانها “تقفل” النفس .. ولا أدري …ربما كان هذا هو صيام الورل !!!
قهوة الكردفاني والتي بها مطعم أيضاً والتي تقع خلف مربوع دكان (الوالد فضل الجليل رحِمٙه الله) في سوق أمدرمان لم تكن توازي قهوة يوسف الفكي أو قهوة شديد في الشهرة، ولكن شهرتها تعود لكونها القهوة الوحيدة التي كانت تفتح في رمضان لأصحاب الأعذار (وغيرهم)..ومن النوع الثاني (غيرهم) هذا إبن عمي الصادق..وهو من النوع الذي تعاتبه على “جٙلْد” رمضان من غير عذر فيجيبك ( عذُر شنو؟؟!! على الحرام أنا صمتا يوم واحد في رمضان السنة الفاتت لي هسع عطشان ) الصادق الآن في المملكة العربية السعودية ومنذ أكثر من عشرين عاماً ولا يُدخل وقت الفرض في آخر ..والله يهدي من يشاء..
من ذكريات الشهر الكريم كذلك المسحراتي..والذي يطوف الأحياء قبل الإمساك طارقاً بنوبته (يا صايم قوم إتسحّٙر ويا فاطر نوم إدّٙمدٙم)..المسحراتي لازال موجوداً في ودنوباوي وإن إختلفت المفردات وتحوّٙلت إلى (الله فوق زوزو يا حلاة زوزو ).. والمسحراتي يرجع بالذاكرة إلى كاريكاتير الراحل عزالدين عثمان رحِمه الله حول عدم مشروعية حل الحزب الشيوعي في الستينات حيث رسم الراحل عزالدين السيد الصادق المهدي في صورة مسحراتي يقرع النوبة قُرب منزل الزعيم الأزهري رئيس البرلمان صائحاً ( أبو الزهور خرق الدستور)..عز الدين عثمان يُعتبر الأب الروحي لفن الكاريكاتير السوداني في حقبة الستينات ولم يسلم من ريشته الساخرة سياسيٌ واحد..وكان كاريكاتير واحد منه يساوي عمود أو مقال صحفي سياسي كامل الدّسٙم..
ومن رسومات عز الدين العالقة بالذاكرة بعد حادثة الإعتداء على الأمير عبد الرحمن نُقد الله في البقعة: رسم عزالدين وجه الأمير نقد الله مُرتدياً العِمة الأنصارية على عُملة معدنيه قديمة من زمن المهدية مكتوب تحتها ( ضُرِب في أمدرمان )..الأمير عبد الرحمن نُقد الله صار وزيراً للداخلية بعد ذلك ولم يغادر سكنه البسيط بودنوباوي ولم يُرسل عز الدين الى الكراكون ..
الزعيم الأزهري رئيس الوزراء كان يبدأ قراءة الصحيفة من الصفحة الآخيرة والتي بها كاريكاتير عزالدين وهو الذي صوّٙره بصورة مٙعزه في الرسم الشهير (العرجاء لي مُراحا) بمناسبة تحالفه مع حزبه القديم ..
السيد الصادق المهدي كان في مهرجان تكريم عزالدين بعد عودته من الإمارات وكان من كبار المشاركين في سرادق العزاء حين وفاته عام ٢٠٠٨.. وكان عزالدين قد صوّٙره لابس ملابس المكسيكيين ورافع إيدينه والشريف الهندي يرتدي نجمة في قميصه وموجِّه بندقية إلي صدر السيد الصادق ووراءه عربية كاوبويات تجرها الخيول ومكتوب عليها (الميزانية).. والشريف يقول له ( ما عاوز تخلِّي العربية تمُر يا ديجانقو ؟؟!!)
بعد مجيء النظام الشمولي في مايو ١٩٦٩ كثرت المضايقات الأمنيه على عزالدين وأُرغم على مغادرة البلاد حيث إلتحق بصحيفة البيان الإماراتية لسنوات عديدة ولكن لم تحقق رسومُه نفس النجاح والجماهيرية وإن دلّٙ هذا على شىء فإنما يدل على أن الفنون بصفة عامة والكاريكاتير بصفة خاصه لا يزدهر إلا في جو الديمقراطية..
الضلع الآخر في المثلث هو أخونا الفنّان د.عبدالمنعم سيد أحمد أو (منعم بورسودان).. وأرى في رسوماته الكاريكاتيريه عبق من روح فن عزالدين ..وتجلت موهبته في الكلية من حيث تحريف مقصود في ملامح طبيعية أو خصائص ومميزات شخص أو جسم ما.. بقصد النقد أو السخرية من وضع إجتماعي أو سياسي، معتمداً على المفارقة الكوميدية من غير إسفاف أو تهريج ..ورأيي الشخصي أن (منعم بورسودان) فنانٌ بالفطرة ضَل طريقه إلى الطب !!
الحديث عن الشهر الكريم لا ينقطع..ولقد طافت بي هذه الخواطر ونحن في اليوم الحادي عشر وتبقي لنا ١٩ يوماً ..ويمكن تكون ١٨ يوم لو (الهلال) شدّٙ حِيلو وجاب لينا (كاس العيد)..
ولا عزاء لأحبابنا المريخاب..
رحِم الله جميع موتانا..