الخرطوم- التحرير- هانم آدم:
(ن) طفل لم يتجاوز عمره العامين، تفتحت عيناه، وبدأ يتحسس طريقه، ويتعرف إلى ما يدور حوله، وهو داخل مبنى ضخم به عدد كبير من النسوة، بجانب مجموعة من الأطفال.
تفتحت عيناه وهو داخل السجن، مرافقاً والدته، ليس لذنب جناه هو؛ بل والدته التي قادتها الظروف لتكون إحدى نزيلات السجن، ومن ثم، أصبح هو الآخر حبيس أربعة جدران تطبق على أيامه، وقد يتعرض لكثير من الإشكاليات بالداخل، أقلها البئية غير المناسبة التي قد تجبره على سماع ألفاظ لا يمكن أن يسمعها وهو خارج أسوارالسجن، وهوحديث عهد بتجميع ونطق الكلمات.
(التحرير) ناقشت قضية الأطفال الذين قادتهم أقدارهم إلى داخل السجون، مرافقين أمهاتهم، لنتعرف إلى مدى تأثير ذلك في مستقبل حياتهم.. وكانت هذه حصيلة ما خرجنا به من إفادات مع أهل الشأن.
سلوكيات سالبة
مديرة دار التائبات العميد شرطة أميرة آدم قالت: “إن صناعة الخمور هي الجريمة الأكبر للنساء، وهذه الفئة تحديداً هي الأكثر استصحابا لاطفالهن بالسجون؛ وتبلغ نسبة الأطفال المرافقين لأمهاتهن المحكومات بالمادة 79 (صناعة الخمور ) بلغت 83.6% في عام 2013م، وارتفعت في عام 2014م لتصل إلى 90.4%، ووصلت إلى 91.4% في عام 2015م، وفي عام 2016م انخفضت إلى 86.2%؛ لترتفع مرة أخرى في هذا عام 2017 وتصل إلى 91.4%.
وأوضحت أن مشكلة بائعات وصانعات الخمور يحتاج إلى وقفة لمعالجتها؛ وأقرت بعجزهم في دار التائبات في تغيير سلوك هذه الفئة، كما أقرت بأن السجون في السودان تعاني الخدمات الأساسية؛ وطالبت بضرورة تحسين بئية السجون، وشكت من تشتت جهود الرعاية اللاحقة، وطالبت بتنزيلها على أرض الواقع، ووصفتها بـ (التعبانة).
فيما شكت المقدم شرطة بدرية عوض عدم وجود آلية واضحة للمجلس القومي لرعاية الطفولة حول أطفال السجون، وتبعيتهم، واقترحت انشاء قناة رسمية لمتابعتهم داخل السجن؛ لتكون لهم بئية خاصة داخل السجن، على ان تكون مهيأة، منتقدة في الوقت نفسه تخصيص فاصل صغير؛ لهم مشيرة إلى أن تحركهم داخل هذه المساحة قد يكسبهم سلوكيات سالبة.
الحضانة والرعاية المناسبة
تشير نصوص قانون تنظيم السجون 2010م إلى كيفية المعاملة الخاصة للنزيلات اُولات الأحمال، وذلك في أن تكفل لهن امتيازات المعاملة الخاصة، والمناسبة لرعايتهن وعلاجهن، وتتخذ بالنسبة إليهن التدابير اللازمة ليضعن حملهن في مستشفي كلما كان ذلك ممكناً، وإذا ولد طفل في السجن فلا يجوز ذكر ذلك في سجلات الميلاد الرسمية، وتوفر للطفل وسائل الرعاية؛ كذلك نص قانون تنظيم السجون على عدم بقاء أي طفل مع والدته النزيلة بعد بلوغه سنتين من العمر، والعمل على تسليمه لمن له الحق في حضانته شرعاً، واذا لم يكن له حاضن يجب تسليمه إلى السلطة المسؤولة عن دور رعاية الأطفال؛ ويجوز لمدير السجن إبقاء أي طفل مع والدته النزيلة تقديراً لمصلحته، على أن تكفل له الحضانة، والرعاية المناسبة.
ولمعرفة الجانب النفسي لأطفال السجينات تحدثنا إلى دكتور عمرو مصطفي اختصاصي الأمراض النفسية، الذي أوضح أن الطفل قبل إكمال العامين لا يكون واعياً لما يحدث حوله، ويمكن تركه إلى حد ما مع والدته، ويشير إلى أن أهم سنين في حياة أي إنسان هي الخمس أو السبع سنوات الأولى؛ لأنها الاهم في تكوين الشخصية إذ يكون الطفل سهل الامتصاص والسلوك، ويتأثر بما يحصل حوله، ويضيف إذا تعدى الطفل ذلك العمر، وهو موجود مع أمه في السجن، فإن ذلك له تأثير مباشر في سلوكه في المستقبل؛ لأن البيئة في الأساس بها مشكلات سلوكية، ونحن دائما نقول: “إن الإنسان ابن بيئته ؛ فالطفل إذا عاش في مثل هذه البئية سوف يكتسب ألفاظاً غير مقبولة، وينظر إلى مناظر غير مقبولة، وأغلب الدراسات أثبتت أنه كل ما كانت البة هادئة ومنظمة كلما كان سلوك الطفل أفضل، والعكس صحيح.
ويشير مصطفى إلى أن السجن ليس كالبيت، فالطفل يفقد أهم أركان تتكون فيها العائلة الأم والأب والأخوان والأخوات والخالات والعمات ..الخ، لذلك فالسجن لا يمكن وصفه ببئية المنزل؛ وطالما السجن يعدّ بيئة غير سليمة ولا تشبه المنزل، من ثم، كل ما حوله غير طبيعي، بل يمكن استغلال الطفل بصورة سيئة يكون فيها هو الضحية.
الوضع الأمثل للطفل
ويمضي الدكتور عمرو في حديثه قائلاً: “هناك قاعدة في قانون الطفل 2010م وهي الوضع الأمثل للطفل، فالوضع الأمثل في هذه الحالة إبعاده”، ويشير إلى أن هناك بعض الأطفال يوضعون في دار الطفل (المايقوما) وتظل أمهاتهم بالسجن في كثير من الأوقات، وهذا حل جيد وحتى إن وقع ضرر، فيكون بسيطاً ولا يؤثر في شخصية الطفل على المدى الطويل.
ويقول دكتور عمرو أن هناك حلاً آخر، وهو أن يكون الطفل مع إحدى الأسرتين، ويفضل أن يكون مع أسرة الأم، بشرط أن تتوافر صفات معينة لمن تقوم برعاية الطفل، مثل الأمانة والأخلاق ومراعاة المصلحة الفضلى للطفل، وإذا لم تتوافر هذه الشروط يفضل في هذه الحالة أن يكون هناك دار خاصة بهؤلاء الأطفال، وحالياً هناك بعض الأطفال بدار الطفل بالمايقوما وأمهاتهم في السجن.
ويضيف عمرو -حتى ينشأ الطفل بصورة سليمة- نفضل أن تكون البئية التي يعيش فيها سليمة ومعافاة، ومن توصياتنا بوصفنا اختصاصين أن يبعد عن أمه في وقت من الأوقات، خصوصاً إذا لم تكن الأم واعية لتصرفاتها أو تصرفات من حولها؛ وهذا التصرف موجود حتى في كثير من البلدان، حيث ينزع الطفل إذا كانت هناك خطورة عليه من الأب أو الأم، ويوضع لدى أسرة بديلة ترعاه.
محاولات لحل المشكلة
المجلس القومي لرعاية الطفولة حاول معالجة أمر أطفال السجينات عبر سياسة قومية لحماية هؤلاء الأطفال داخل المؤسسات الإصلاحية، وقد هدف من خلالها إلى وضع خيارات لحماية أطفال النزيلات، وتقوية دور الشركاء للتقليل من حجم المشكلة؛ ليكون الهدف الأساسي لنظام العقاب هو إصلاح وإدماج هذه الأم في الأسرة، وإصلاحها اجتماعياً، ومراعاة حق أطفال النزيلات في الحضانة بعدم فصلهم عن أمهاتهم بالمؤسسات الإصلاحية، إلا إذا اقتضت المصلحة العليا ذلك، وذلك بتوفير رعاية مؤسسية متكاملة لدور الرعاية البديلة للأمهات النزيلات، وإيلاء رعايتهن، ودمجهن في المجتمع، مع الأخذ في الحسبان أوضاعهن الاجتماعية والنفسية بواسطة مختصين.
هذه السياسة -بحسب المستشار بمجلس الطفولة الدكتورعمر إبراهيم كباشي- تشير إلى ازدياد حالات بقاء أطفال النزيلات بالمؤسسات الإصلاحية وفقاً لإحصائيات تلك المؤسسات، وهذا الأمر يتطلب وجود سياسة تنظم حمايتهم ورعايتهم في بئية صالحة لتنشئتهم؛ وأقر بوجود تحديات تواجه هذه السياسة أبرزها عدم توافر البئية الأسرية لأطفال النزيلات داخلياً أو خارجياً، بجانب استفحال الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الفرعية الذي يفاقم المشكلة، فضلاً عن الوصمة الاجتماعية على اطفال النزيلات بداخل المؤسسات الإصلاحية وخارجها، وأثرها في مستقبلهم، ومحدودية الإمكانيات الفنية والموارد المالية والبشرية لمؤسسات الإصلاح والسجون وغيرها، وضمان انسجام الأنشطة الموجه لرعاية أطفال النزيلات مع البرامج والخطط والإستراتيجيات القومية وقوانينها وتطوير سياسة التدخل وتحديد مهامها بالنسبة إلى الشركاء العاملين في مجال حماية الطفولة.
ويشير دكتور كباشي إلى أن الوضع الراهن يؤكد أن مشكلة أطفال النزيلات في السودان تنتشر في المناطق ذات النسب العالية في جرائم النساء ، خصوصاً في ظل الأوضاع الاقتصادية التي يعيشها سكان تلك البقاع وفي مناطق النزاعات المسلحة، ويقول إن الإحصائيات المتوفرة بالمؤسسات الإصلاحية تؤكد تزايد النزيلات بصحبة أطفالهم خاصة في المناطق الحضرية ،مشيرا لتضافر الجهود لإحتواء المشكلة سواء كانت جهود رسمية عبر التشريعات والقوانين أوغير الرسمية (الدعم المجتمعي الطوعي لأطفال النزيلات، وتقديم الخدمات الغذائية والصحية لهم في الدور، ومساهمة منظمات الأمم المتحدة والمنظمات التي تعمل في المجال لخبرتها ومعرفتها بكيفية التعامل مع الأمهات، إضافة إلى برنامج التدريب، وبناء القدرات المؤسسية والفنية، لكل الجهات المعنية بأطفال النزيلات ).
توفير الرعاية الصحية والتعليم
السياسة العامة للتعامل مع هذه القضية تقوم على كثير من المحاور. إضافة إلى المحور الديني والمجتمعي والتشريعي والقانوني من خلال توفير الرعاية الصحية الأولية لأطفال النزيلات، بالتعاون مع وزارات الصحة في المركز والولايات، وتوفير العلاج المجاني عبر مظلة التامين الصحي لكل طفل في دور الرعاية والإصلاح، فضلاً عن توفير تعليم جيد النوعية ومجاني وإلزامي لأطفال النزيلات المرافقين والموجودين مع الأسر البديلة داخل وخارج مرحلتي الأساس والثانوي، ودمجهم في المجتمع؛ هذا بجانب محور مناصرة الإعلام لقضايا أطفال النزيلات، والعمل على رفع قدرات المشرفين والباحثين الاجتماعيين، وفريق العمل؛ لمتابعة حالات أطفال النزيلات، وكيفية أتخاذ الإجراءات القانونية عند صدور أحكام ضد أمهاتهم .