الفريق طه مرة أخرى!
هذه المرة، فإن طه عثمان، المدير السابق لمكتب الرئيس البشير، يجد نفسه في موقف حرج لا يحسد عليه. إذ يحتدم حوله جدل واسع في أوساط السودانيين عبر وسائل تواصلهم الاجتماعية المهيمنة على بلورة الرأي العام بينهم.
وفي إطار هذا اللغط، يقع طه ضحية لتهم بفساد فاحش وثراء غير مشروع. لكن، سواء صح ما يقال عنه أم لم يصح، تظل الإنقاذ هي المسؤولة أولاً وأخيراً عن منظومة الفساد التي سدت على الناس منافذ العيش الكريم، وبددت في مآقيهم حلماً هنياً بسودان قادر على استشراف مستقبل أفضل من راهنه البائس.
يتضح الفساد من نتائجه النهائية التي تشمل، دون حصر، تدهور كافة أركان الخدمة المدنية. وأبلغ دليل على ذلك ما يحدث اليوم من زيادة مطردة في عدد المصابين بالكوليرا، وتفشي الوباء تفشياً مخيفاً ينذر بعواقب صحية وخيمة، وفي ارتفاع التضخم ليصل إلى ٣٣.٧٪ حسب إفادة وزير المالية في معرض تقديمه لأداء وزارته للربع الأول من هذا العام، وفي ارتفاع معدلات هجرة الأيدى السودانية العاملة في شتى التخصصات النادرة.
إذن استشرى الفساد في عهد الإنقاذ استشراء لم نعرفه في حياتنا من قبل. ومن بين ١٧٦ دولة ضمتها قائمة مؤشر الفساد العالمي لسنة 2016م، الصادرة عن منظمة الشفافية الدولية، جاء السودان في الترتيب ١٧٠، وهو يقبع بذلك في مؤخرة شعوب العالم باستثناء بضع دول جاءت بعده وهي اليمن وسورية وكوريا الشمالية وجنوب السودان والصومال.
وكانت في صدارة القائمة كل من الدنمارك ونيوزيلندا وفنلندا والسويد وسويسرا، وهي دول يتدنى فيها الفساد إلى حد التلاشي. وحسب التعريف المتفق عليه دولياً، فإن الفساد يعني سوء استغلال السلطة المخولة للشخص بغرض تحقيق مكاسب شخصية.
لكن ما هو انعكاس الفساد على حياة المواطن البسيط؟ وهل الأمر ينطوي على كل هذا القدر من التوجس على مستقبل البلد؟
ينبغي ألا نستسهل موضوع الفساد وما يلقيه من ظلال داكنة على مستقبل البلاد. وهو ضرر سيظل يعاني منه الشعب أمداً طويلاً. وإذا لم نستعجل اجتثاثه فوراً، فسوف يلازمنا الندم وتبكيت الضمير لزمن طويل مقبل. وإذا كانت الأجيال العتيقة المحظوظة التي نعمت برغد العيش في أوقات سابقة للإنقاذ، قد حصلت على التعليم المجاني، ومن سماته الكفاءة، وعدالة التوزيع، والقدرة التنافسية الرفيعة دولياً، كما حصلت على العلاج، والخدمات الصحية، والعدالة، وفرض أحكام القانون، وخلافها من خدمات عامة، فإن المواطن اليوم يجد صعوبة شديدة في حصول أبنائه على التعليم المجاني، وعلى خدمات علاج من مرافق صحية عامة ذات كفاءة واقتدار.
بالمثل يتعذر على شريحة كبيرة من المواطنين الحصول على سبل عيش كريم تستند إلى مباديء الجدارة، والاستحقاق، دون أن يكون الولاء لهذا الحزب أو ذاك عاملاً حاسماً في الوصول إلى الوظيفة، في القطاعين العام والخاص.
يعني الفساد أن حصيلة ما يدفعه المواطن في شكل ضرائب وجبايات يدخل جيوب أهل الإنقاذ بدلاً من أن يوجه نحو أولويات بعينها، مثل: توفير الكراسي للتلاميذ، وتزويدهم بالكتب والدفاتر، وتغطية مرتبات معلميهم، وإنشاء فصول جديدة، وصيانة المتهالك منها وغير ذلك مما يحتاج إليه قطاع التعليم، وهو عماد نهضة الشعوب والشريان الرئيس الذي يرفد التنمية بمعين لا ينضب من الكفاءات والعقول القادرة على الإبداع.
يصدق ذلك على كل القطاعات. فمثلاً نلاحظ أن مخصصات القطاع الطبي اللازمة، لتقديم خدمات تليق بالمواطن الغلبان، تهدر عبثاً في ترضيات سياسية وفساد إداري تشهد بحجمه تقارير المراجع العام السنوية. علماً بأن هذه الخدمات العامة ليست منحة من أحد، بل هي حق مشروع يستحقه المواطن نظير ما يستقطع منه في شكل ضرائب، وجبايات، لا تعد ولا تحصر.
وسواء أكان المتهم بالفساد طه أم غيره من ذوي النفوذ في الحزب الحاكم، فلا شك ان الإنقاذ قد أوردت البلاد مورداً مهلكاً، وأحدثت خللاً هيكلياً في بنية الحكم كانت قد بدأته مبكراً، ومنذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، بالتمكين.
وتحت مظلة هذا التمكين، جاءتنا الإنقاذ بجحافل من أصحاب الولاء خصماً على ذوي الكفاءة والدربة والتأهيل. بل باشرت بتسريح الأكفاء في الخدمة المدنية بوازع من تحقيق «الصالح العام». إننا متى وضعنا الفرد في مكان لم يكن مؤهلاً له، وغفت العين عن مراقبته، فإن ممارسة الفساد تصبح أمراً محتملاً إن لم يكن حتماً. ذلك أن البشر هم بشر وليسوا ملائكة هبطت من السماء، أو بصدد الصعود إليها.
هذه الحقيقة تؤكدها إحدى التجارب الطريفة. إذ قامت مجموعة من الباحثين في حقل التنمية بالقاء حزمة نقود في موقف سيارات مظلم، ليتضح أن ٩٠٪ ممن عثروا على النقود أخفوها، واختفوا من الأنظار بها. لكن، عندما جُهز المكان بالإنارة ونُصبت فيه كاميرات مراقبة، فإن ٩٥٪ من الذين عثروا على النقود قاموا بالإبلاغ عنها. نعم نوازع الخير هي الغالبة على البشر، لكنها تتحول إلى النقيض إذا لم تعضّد بمحفزات تجذب، وزواجر تنهي.
هكذا يصبح ضرورياً في الحياة العامة أن نعقلها ثم نتوكل. معنى ذلك أن شبكات الفساد الحكومي تزدهر في ظل غياب الصحافة الحرة، وانتفاء وجود مجتمع مدني يقظ ومبادر؛ فضلاً عن غياب المعلومات المتصلة بالمصروفات العامة، وكذلك غياب مؤسسات عدالة نزيهة وذات نفوذ. ففي إطار وضع مظلم كهذا، من الطبيعي أن يصبح الثراء، وبأقصر الطرق وأسرعها وأنجعها، ثقافة تسود قطاعاً عريضاً من المجتمع، ويتعذر القضاء عليها في المستقبل القريب، من دون أن تخضع لحل هيكلي شامل يبدأ بتفكيك منظومة التمكين، وبالأحرى تفكيك الإنقاذ، وإنهاء عهد كئيب تراجعت فيه أقدارنا تراجعاً غير مسبوق.
لا نتوقع أن يحاسب الفريق طه على الاتهامات الموجهة إليه. ذلك أن العدل لا يتطرق إلى أصحاب حضرة السلطان، خصوصاً ممن يتوافرون على معلومات من شأن الإعلان عنها للملأ أن يثير حفيظة نفوس كثيرة مقربة من متخذ القرار. كما أن الرئيس ليس بمنجى من اتهامات الفساد التي تكال لأحد الحيران المقربين. وحتى إذا افترضنا جدلاً إخضاع طه للتحقيق، فستكون تلك ملهاة تستغلها الإنقاذ لتحريك خيوطها في أوقات معينة تنفيساً للشارع وفق مقادير تنفيس معلومة. بمعنى أن التحقيق لن يصل إلى غاياته القانونية المتوقعة.
من نتائج هذا الخلل الهيكلي أيضاً أن أغلب ميزانية الدولة تُوجه إلى الشاغل الأمني، ولتغطية ما يستتبعه من ترضيات سياسية، وشراء الولاءات والذمم في دروب الحياة كافة. وتلوذ الإنقاذ بالقبضة الأمنية المحكمة؛ لإدراكها التام أن الشارع السوداني لن يمهلها طويلاً في ظل تردٍ مستمر في أوضاع حياته.
ولا شك أن السيناريو الحالي الذي يمر به الفريق طه يبرهن على سطوة ونفوذ القبضة الأمنية، ومدى سيطرتها على الوضع حول الرئيس، وكأنما محمد عطا هو الرئيس الفعلي للبلد، وهو الذي يوجه.
ومهما قيل من روابط وثيقة تربط الفريق طه بدول الجوار الخليجية ذات الأهمية النسبية في ظل ظروف اقتصادية عصية على الترويض، فلا صوت يعلو فوق صوت محمد عطا وجلاوزته.
فضلاً عن القبضة الأمنية المطبقة، فإن الإنقاذ تعمل جاهدة على تفتيت قوى المعارضة، السلمية منها والمسلحة، وعلى شل الحراك المجتمعي، وقبره في مهده على مستوى الأحياء السكنية، من طريق اللجان الشعبية، التي زرعت بين الناس.
يحدث كل ذلك على حساب الخدمات الأساسية في قطاعات التعليم، والصحة، وسلة الغذاء اليومي للمواطن. بالطبع سيتيح لها ذلك وقتاً إضافياً لتبقى في سدة الحكم، لكن سيأتي اليوم الذي يخرج فيه الشارع عن صمته، ويصدع ضد الإنقاذ، ويبدد مرتكزات سطوتها، مهما كانت ضخامة تلك المرتكزات، ورسوخها. فالتاريخ يحدثنا بأن الحكم في النهاية سيؤول للشعب، عاجلاً أم آجلاً.
من خلال هذه المقاربة للموضوع، نكون قد اقترفنا خطأ فادحاً في حق طه إذا ما أنحينا عليه اللوم وحده. فهو ليس سوى ظل باهت من فيل ضخم ينبغي على الشعب السوداني أن يستنفر كل قواه ليصرعه، ويقضي عليه.
ذلك الفيل هو الفساد الذي استحدثته الإنقاذ، وترعرع في ظل سياسة التمكين البغيضة، وسيظل يتهدد حياة الشعب السوداني، ويجرّعه غصصاً تزيد مرارتها طرداً، مع تطاول المماطلة في القضاء على الفيل، والركون إلى غواية التخلص من ظله أولاً… علماً بأن الظل يبقى بطبيعته مخادعاً، عنيداً، ماكراً.. بينما تظل مصاولته جهدا مضنياً لا طائل من ورائه.