ربما لم توفق الكتلة التاريخية حول الحركة الشعبية-الحلو، التي أعلنت عن قيامها لنحو أسبوعين، في اختيار من عرضوا مشروعها في أول مؤتمر صحفي لها. فالدكتور محمد جلال هاشم كالعادة مشغول بمشروعه المسمى التحليل الثقافي بما يزكيه منظراً “سوسولفياً” للكتلة، لا مُبلغاً عنها.
أما الدكتور محمد يوسف أحمد المصطفي فواضح من حديثه في المؤتمر أنه “متشرقط” في ردود الفعل السلبية المختلفة لتصريحه الباكر عن فصل الدين عن الدولة الذي أزف في السودان بالثورة. فضاق حتى رفاقه في إعلان الحرية والتغيير به ناهيك من أنه رمي بوجبة اللحم الأحمر الأولى لوحوش الثورة المضادة.
غير خاف على المتابع أن ود يوسف انتهز سانحة المؤتمر الصحفي للكتلة لبيان ما عناه من فصل الدين عن الدولة في كلمته التي أثارت العجاج. فقال بأن مرد دعوته لهذا الفصل هو أن السياسة وسخة ولا يريد للدين أن يتلوث بها. وهذه كبيرة. فالسياسة ليست كذلك بخاصة لمن رضعها في بيت كبيت المرحوم والده الباذل عمراً بأكمله لقضية المزارعين وسياساتهم. وعمم ود يوسف بقوله إنه، ما اشتبكت الدين والسياسة عبر تاريخنا، إلا اتسخ الدين منها. ولم تصمد نظرية ود يوسف لأنه سرعان ما أطرى المهدية بسخاء وهي التي الدين عنوانها لا غير.
أما محمد جلال فلم يبرح شاغله كمنظر لعداء العربسلامية. ولا يتورع في مثل هذا اللقاء الصحفي عن حلف سياسي بأن يقذف على سامعيه بمصطلحات لم يستوثق منها بعد بين أنداده في معامل التفاكر. فقال إن السودانيين ليسوا عرباً وإنما هم “عربفونيون”. وجاء بهذا القياس من الفصل “الدبلوماسي” الرقيع في أفريقيا بين “الأنجلوفوبيين”، من خضعوا للاستعمار الإنجليزي، و”الفرانكوفوبيين” ممن ركبهم الاستعمار الفرنسي. ولا أدري كيف جاز لمحمد جلال استعارة هذا المفهوم المسيخ ليقطع بهوية شعب يتحدث ثلثه العربية كلسان أم وهم من ذ(ض) بيان وربيعة ودغيم وكنانة وخزام وبنو سليم و”السايِر عَطِيَّة والمُقِيم حِيمادْ والدُخَّان البِتَلْتِلْ دَاكْ، هو راشِد الولاَّدْ” ممن حملتهم الهجرات العربية الموثقة للسودان.
وجاز عندي مصطلحه، على لؤمه، لو أراد بالمصطلح شعباً من السودانيين، غير محصور النسبة بعد انفصال الجنوب، ليست العربية لسان الأم عندهم. ولن ننشغل هنا بفساد المصطلح سوى بالقول إن بلاداً مثل تنزانيا الأنلجوفونية لسانها الرسمي السواحيلية مع لغات أخرى لشعوبها. فالأنجلوفونية (والفراكوفونية بالطبع) ليست هوية لأحد إنما هي نفايا ثقافات غازية ينشغل أهل الوجدان من مثل الكاتب الكيني المؤرق نقوقي واثيونقا بطرد أرواحها الشريرة من سماء بلدهم وثقافتهم.
وأجد نفسي مضطراً لأعيب على تلميذي الآبق محمد جلال الاستهانة بمصطلحه في أحاديثه. سمعته يتحدث إلى إذاعة ما بعد وصفه للعرب بـ”الحقارة” في ندوة بميدان الاعتصام.
وقال هذا الداعية للكتلة التاريخية إن من لم يعترف بسواده (أي منا نحن العرب المتهمين بإنكار سواد لوننا) ف”يشوف ليهو بلد”. فنحن، في قوله، سودانيون وكفى. ولكني وجدته يضطرب كثيراً في تعريفه ل”سوداني”. فصفة السوداني عنده السواد. واستغربت له يميز بين سَوادنا و”اللون الأسود الفحمي”. ولو فهمته جيداً أراه يختار لنا منزلة بين المنزلتين: بين العربي الأبيض والأفريقي الأسود الفحمي.
وهذه عيب أخلاقي كبير في حق مثله ممن دعواهم الأفريقية، سوداء فحمية وغير فحمية، ولا سواها. ففي التدقيق في درجة السواد شبهة عنصرية. ولم يقف اضطراب محمد جلال عند هذه الحد. فاحتج أن بعضنا يتخفى من أفريقيته وراء قولهم إنهم سودانيون “ودي ما بتحل كما قال”. وهكذا أنكر محمد جلال قول من قال بأنه سوداني، التي قال هو نفسه إنها صفتنا، لأنه لا يريد أن يقر بأفريقيته.
وهكذا يتربص بنا محمد جلال في موقف من تلك التي يقال ألا كسب منها، وإن تقطعت الأنفاس في سبيلها: جاي ووب وجاي ووب: تقول أنا سوداني متهرب وأنت سوداني مع ذلك.
حال انشغال ود يوسف ومحمد جلال بأغراضهما دون أن يحسنا التبليغ عن التعريف بالكتلة التاريخية التي انتدبتهما للغرض. وصح قول صحفي وصف المؤتمر بالمربك. وكان سأل إن كانت الكتلة جبهة متحالفة أم حزب سياسي. وهو سؤال انبني على قول محمد جلال إن الكتلة جماعات التقت على مقصد استراتيجي جمع بينها برنامج الحد الأقصى لأول مرة لا الحد الأدنى. ولا تكون الجماعة بهاذين الخصيصتين (التطابق الاستراتيجي وبرنامج الحد الأقصى) سوى حزباً. وبدا أنه لا محمد جلال ولا ود يوسف قد استعدا لهذا السؤال البدهي عن هوية كتلتهما. فأعتذر ود يوسف بأن أمر التحالف ما يزال في بداياته، وأنه لا يعرف عنه كبير شيء، وأنه قد يتكلم عن الحركة الشعبية، التي هو طرف فيها، لا سواها. وأكد أنه لن يكون شخصياً في لقاء آخر للكتلة.
ولن اختم كلمتي هذه عن بؤس التبليغ عن الكتلة التاريخية بغير تعرض لمفهوم الكتلة التاريخية نفسه. ومؤكد أنه من المعيات تلميذي الابق محمد جلال. والمفهوم مما ينسب للماركسية الجديدة التي روج لها المثقف الإيطالي الماركسي البَر أنطونيو قرامشي (1891-1937). وصار المفهوم يعني بين من يتداولونه مثل محمد جلال غير ما أراد قرامشي منه. فصار يعني عند الخلف التحالف السياسي بخلاف مراد قرامشي.
ولفهم مطلوب قرامشي منه صح معرفة ما يريده الماركسيون ب”البناء المادي أو التحتي” (وهو الإنتاج وعلاقاته وقواه) و”البناء الفوقي” وهو الفكر والثقافة والمؤسسات التي تنشأ من دفع الناس بعضهم بعضاً في البناء المادي.
وقرامشي، على خلاف مع الماركسية التي انحدرت إلينا من التجارب السوفيتية، شديد العناية بالأساس القوقي ولا يراه مثلها مجرد انعكاس بسيط للبناء التحتي. وجاء بمفهوم الكتلة التاريخية في مسعاه الحثيث ليتجاوز هذا الفهم البسيط للبناء القوقي. فنبه به إلى أهمية البناء الفوقي الذي هو المورد الذي يعي به الناس أحوالهم. وعليه لم ير بين البنائين علاقة انعكاس من أسفل إلى أعلى بل وحدة متينة بين المستويين لإحداث التغيير في منعطفات الصراع الاجتماعي. وباختصار فالقوي المادية التحتية والبناء الفوقي يشكلان، حسب قرامشي، الكتلة التاريخية. ولا اعتقد أن ما أعلن عنه محمد جلال ينطبق عليه مفهوم قرامشي له. فكتلتهما كيان سياسي حزباً كانت أم حلفاً أم محمد جلال هاشم؟