شهد بيتنا جمعاً من الأحباب أتوا لوداعنا، وترتيب الأمتعة والمسامرة مساء أمس.
الحين نحن في مطار سيتاك الدولي في سياتل، حيث توجد موازين للتأكد من أن الوزن الكلي غير متجاوز، وأن الحقائب غير فائقة الثقل قبل الإقدام على مقابلة الموظفين.
نتيجة الوزن أخذنا الزائد من الثقيلة للأخف حتى اطمأننا، غير أن موظفاً حرفياً صادفنا أصر على أخذ الزائد من إحدى الحقائب، وعندما أخرجنا منها فردة حذاء “ظبطت”، وكانت نكتة أضحكتنا والحضور .. إنه التعسف!
بارحنا الأحباب مودعين لئلا تقف سياراتهم طويلاً أمام حركة الركاب بالخارج، فبقي معنا حتى الشريط الأخير الابنان أحمد عمر صالح ومحمد أنور اللذان وقفا حتى ابتلعنا زحام المسافرين.
مشيت وأم محمد طويلاً حتى بلغنا صالة الانتظار قبل ساعة من الإقلاع. وكان حولنا كثير من الخواجات فجاءت أفريقية مليحة تسالمنا وتجالسنا، واتضح أنها شابةجيبوتية في طريقها لبلادها تاركة زوجها وأطفالها، وقد برح بها الشوق لأهلها، ثم أقبل شاب وزوجته بقريبتهما الإثيوبية المسنة التي ترتدي زيها القومي فأوصونا بها خيراً، ولاسيما أنها غير ملمة بالإنجليزي ولا العربي!
غادرنا قبيل منتصف الليل بقليل وظلت الطائرة تسبح في الأجواء طوال الليل. ومع طلة الصبح هبطنا في واشنطن العاصمة، وكما يقال عند الصباح يحمد القوم السرى.
سألنا عن مكاتب الخطوط الإثيوبية فتطلب الأمر اجتياز مسافة لمبنى مقابل يختص بالخطوط الأجنبية بمركبة خاصة تابعة للمطار، ثم علونا بمصعد فهبطنا وسرنا حتى وصلنا. جلسنا قليلاً نرتاح ثم تناولنا طعاما خفيفا وشاياً، وانتظمنا في الصف فكانت الإجراءات والتزود ببطاقات صعود الطائرة.
حينما كنا نتجه لجوف الطائرة أسرعت تسالمنا إحدى بناتنا، التي تعمل في الخطوط المصرية المجاورة، فتبادلنا معها التحية وشيئاً من الحديث، وكان الوداع حيث تم تصويرنا تباعاً عند باب الطائرة سريعاً.
أقلعت بنا الطائرة الإثيوبية العملاقة الضحى وثلثا ركابها من الجالية الإثيوبية الكبيرة، وظللنا في الجو وسط كرم وترحاب من مضيفات لطيفات يتنقلن كفراشات زاهية بيننا طوال النهار، ثم غربت الشمس ونحن نتجه عبر أوروبا والبحر المتوسط، وكنت أتابع على الشاسة المثبتة على المقعد الأمامي صوراً عن طرائق السلامة والنجاة وخط سير الرحلة الطويلة والطائرة تدخل مصر وتتجاوز أسوان مروراً بالبحر الأحمر شرق بورتسودان فإريتريا.
أخيراً عبرنا بحيرة تانا وسلسلة الجبل الأحمر وعند الثامنة صباحاً ها هي تنخفض تدريجياً للهبوط في أديس، التي توقفت فيها قبل أعوام، وأنا في طربقي للخرطوم من العاصمة اليمنية صنعاء.
بدت أديس بخضرتها وتلالها المعشوشبة وبعض عماراتها المشرئبة أكثر زهاء.
أسرعنا في صفوف طويلة تضم مختلف الجنسيات نجري التفتيش المعتاد لما نحمل من أمتعة ثم نزلنا بمصعد ووجدنا كثيرا من السودانيين في صالة المغادرة.
سعدت فيها بمجالسة الأستاذ إبراهيم دقش مدير الإعلام السابق بمنظمة الاتحاد الأفريقي، صاحب عمود “هوامش بقلم الرصاص” الصحافي ،ودار الحديث حول الذكريات التربوية والصحافية، ولا غرو فهو وعقيلته الدكتورة بخيتة أمين مراسلة مجلة ” سيدتي ” في الخرطوم من جيل التعليم الذهبي.
وعلمت منه أنه لم يحمل الجنسية السنغالية كما نشر، لكن الرئيس السنغالي منحه جواز سفر دبوماسياً تقديرا لجهوده في خدمة القارة، يعينه في تردده على باريس خاصة، لما بين البلدين من تعامل مميز كمستعمرة فرنسية سابقة. وقال إنه أسس كلية للإعلام في أمدرمان تمضي بسلاسة.
وحين كنا نصطف في باب الطائرة حظيت بمصافحة الأستاذ الدبلوماسي، النجم الرياضي المهذب علي قاقارين، ما جعل لقائي بيليه جوهرة الكرة العالمية في مطار أبوظبي في طريقي لدلهي يقفز لخاطري.
عند انتصاف النهار كنا في مطار الخرطوم ووقفنا في صف ممتد فأشاروا لأم محمد لتكون في المقدمة مع ٣ سيدات هناك فتبعتها وعند وصولها الشباك قال من في الصف:
مش أنت تبعها .. تقدم؟
فقلت مازحاً:
زمان كانت تبعي، والحين أنا تبعها.
فضجوا بالضحك، بل صاح أحد الظرفاء معلقا:
ما دوامة!
وحين مثلت بين يدي الموظفة تفرست في وجهي وهي تختم جوازي بالدخول قائلة: أنت تشبه وردي .. هل قريبك؟
قلت: نعم ومن معجبي إبداعاته.
ولم تفارقنا ونحن نتسلم العفش ونغير العملة ونفعل شرائح الجوالات روح الدعابة رغم رحلة الطيران التي حملتنا عبر ٣ قارات خلال ليلتين ونهارين.
ونحن في غاية الرهق، خاصة أن من طبعي ” نوم الديك في الحبل ” خلال الطيران سارت سيارة الأجرة متمهلة بنا لاشتداد الحركة تجاه حينا عبر شوارع عاصمتنا السمراء قلب بلادنا العزيزة ” الفنجرية “، التي نحملها في وجداننا وأحداقنا حيثما كنا انتماء وولاء.