الرياضة ساحة للحب والتسامح، ووسيلة للتواصل الحضاري،
ودبلوماسية شعبية عظيمة، وقد تكون أكثر تأثيراً من الدبلوماسية الرسمية، ودائماً
ما يذكر في هذا المقام ما اصطلح على تعريفه بـ “دبلوماسية البنغ بونغ”،
إذ أرادت الصين التقارب مع الولايات المتحدة الأمريكية وبدء صفحة جديدة في
علاقاتها الدولية التي لم تكن على ما يرام بعد ثورتها الثقافية، فقررت دعوة فريق
البنغ بونغ الأميركي، ووجهت الدعوة خلال مشاركة فريقي البلدين في دورة في طوكيو.
وقبل الفريق الأميركي الدعوة بعد استشارة السفارة
الأميركية، وبالطبع استطلاع رأي الدولة الرسمي، فكان الترحيب بالدعوة، ثم كان
الاستقبال الرسمي والشعبي المذهل للفريق الأميركي، وهذا ما أذاب الجمود الذي اتسمت
به علاقات البلدين ابتداءً من أبريل 1971م.
وهذا المثال يبرز بوضوح كيف يمكن أن تكون الرياضة
وسيلة لإصلاح ما تفسده السياسة، ولكن ما نلاحظه في عالمنا العربي أن الرياضة تزيد
الطين بلة، بل تؤجج الصراعات، وتوقظ ما قد نام من فتن، ولعل مباراة المنتخبين
المصري والجزائري في الخرطوم في عام 2010م خير دليل على إفساد العرب لمفهوم
الرياضة، إذا قامت في وقت واحد معركة بين ثلاثة شعوب يمثلون نحو نصف سكان الوطن العربي
(أكثر من 180 مليون نسمة)، وطفحت وسائل التواصل الاجتماعي بأسوأ العبارات العنصرية
البغيضة، وشارك فيها إعلاميون وفنانون، ومنهم من يطلق عليهم “النجوم”.
وإذا جئنا لمباراة الهلال السوداني والأهلي المصري أمس
(1 فبراير 2020م) نراها مباراة عادية في بطولة تطمح إليها أندية القمة في أفريقيا،
وينالها في النهاية ناد واحد، ومن لم يحالفه التوفيق اليوم يمكن أن يبتسم له الحظ
غداً، وقد أفسدها قبل أن تبدأ سلوك أرعن من مشجع للهلال، ومثله سلوك بعض مشجعي
الأهلي المصري، لتبدأ حملة مسعورة شارك فيه بعض من ينتسبون إلى الأعلام والرياضة
خطأً.
وما يهمني هنا تأكيد أن هناك جمهور غير واعٍ لا يرى
فريقه إلا فائزاً، وكان هذا سبب إنهاء مباراة القمة بين الهلال والمريخ في نوفمبر
الماضي بسبب التراشق بالحجارة في سلوك غير حضاري، كما رأينا حالات فردية من جمهور
الهلال تمثلت في اقتحام الملعب خلال مباراة الفريق مع الأهلي، وهذا ما يعكس صورة
سيئة لا عن كرة السودان أو جمهورها، إنما عن البلد نفسه.
ولقد كانت الأجهزة الأمنية على مستوى الحدث، إذ
استطاعت السيطرة على الأمور بطريقة احترافية، وتأمين عالٍ لطاقم التحكيم
واللاعبين.
إننا إذن إزاء ظاهرة تستدعي وقفة صارمة مع رؤية
بانورامية للمشهد العام، وأول ما يمكن قوله بقراءة انطباعية إن هناك حاجة ملحة
للتوعية بمفهوم الرياضة ومراميها، وهي تمثل جزءاً من مصفوفة شاملة لرفع الوعي، من
أجل الارتقاء إلى مستوى طموحات الثورة، التي يجب أن تكون ثورة اجتماعية لتغيير
المفاهيم، وإرساء القيم والمثل، وصياغة خطاب إعلامي وثقافي عصري يقوم على الدراسة
والتحليل واختيار أنجع الوسائل والسبل لإجهاض الظواهر السالبة التي تشوّه وجه
المجتمع السوداني.
إن الرياضة أساسها المتعة للممارس والمشجع، وبالطبع الفرح بالفوز من أجمل المتع، إلا أن القبول بالهزيمة (إذا سلمنا بوجودها في الرياضة) يمثل أرفع أنواع السلوك الحضاري، الذي يبرز أصالة الإنسان، وسمو قيمه، ومن لا يرضي بالخسارة عليه أن يجلس في بيته، فلا يفسد على الناس متعتهم بمتابعة الساحرة المستديرة التي أجمعت الشعوب على حبها والكلف بها.
ولعلي أختم برأي مشجع للكرة وهو أن كرتنا السودانية لن
تنهض ما لم نعمم في أنديتنا المراحل السنية التي تبدأ من سن القبول في المدرسة،
ليتعلم الطفل فنون الكرة على أصولها، وهذا ما يجعلني أشفق على لاعبينا الذين لم
نعلمهم تلك الفنون، ونريد منهم الفوز، ففاقد الشيء لا يعطيه، فهؤلاء اللاعبون
يفتقدون أبجديات الكرة، ولا يجيدون غير الركل والرفس.. إنهم حقاً يستحقون الشفقة،
وجمهورنا عاشق الكرة عليه أن يتخلى عن عشمه، فهو كـ”عشم إبليس في الجنة”.