حينما قامت الجبهة الاسلامية بانقلابها على الحكم الديمقراطي الضعيف و المفكك ، كانت تعتقد بأنها سوف تجعل من السودان جنة المؤمنين ، نفس الجنة ( اشتراكية الهوى ) التي وعد بها الحزب الشيوعي السودانيين بعد انقلاب نميري و حلم تخليص البلاد من الرجعية و الطائفية .
و هي نفسها جنة افلاطون (يوتوبيا العدل و الحزم ) التي وعد بها رئيس وزراء السودان عبدالله خليل الشعب و السيدين ، حين قام بتسليم السلطة الديمقراطية للجيش و قائده عبود . وكلها كانت أماني الباطلين و احلام الجاهلين يمنون بها الشعب ، حتى اذا وصلها الشعب وجدها قاعا صفصفا، فطفق يردد مع المتنبي :
أظمتني الدُنيا, فلما جئتُها مُستسقيا مطرت علي مصائبا
تبددت يوتوبيا عبود ، و تهاوت جنة نميري ، وتسعرت نعيم البشير حين وصل الشعب إلى مرحلة متاخرة من ضيق العيش و شظفه و كبت الحريات و انعدامها ، و تساوى عنده الموت و الحياة ، فخرج ثائرا عليهم.
هاهي جنان الشموليين تحيل الوطن جحيما لا يطاق ، عبر ٥٢ سنة من الشمولية لم يبق في الوطن شيء يغري بالأمل، جميع الملامح تغيرت ، نصف قرن من الشمولية أجج البلاد بالحروب وقتل فيها الطموح والتنافس وأغرق فيها الأجيال المتوثبة للعلا وحطم كل الأحلام الجميلة في وطن من الديمقراطية والحرية والعدالة .
هذه ورثة الشمولية ننظر اليها الان حين يقف الشعب السوداني في القرن الحادي و العشرين في صفوف الخبز في بلاد بها أخصب مزارع الكون والتي لو زرعت بالقمح كما ينبغي لتفضل السودان بالخبز على جيرانه ، هي ورثة الشموليين ان يقف شعبنا في اطول صف وقود في العالم و ينام في محطات الوقود في انتظار البنزين في بلاد جرى فيها نهر البترول فرأي الشموليين ان الشعب لا يستحق ففصلوا البلاد وقسموها شمال وجنوب .
انها تركة الشموليين ان نكون في القرن الحادي و العشرين ونصف مليون تلميذ لا يتناول وجبة الإفطار من العوز في قلب العاصمة الخرطوم !! يعيشون في عاصمة سلة غذاء العالم ولا يجدون لقمة إفطار!!!
انها التركة الشمولية ان نعيش في القرن الحادي و العشرين و ٣ ملايين طفل سوداني في عمر المدرسة لا يذهبون إلى المدرسة ! إنها التركة الشمولية أن تئن بلادنا بأكبر عدد من النازحين داخليا ، نزوح غير معالم المدن والقرى والثقافة والحياة ومسح باستيكة وطنا خيره من الريف وتنويره من المدن.
هذه هي المأساة التي تتوسدها حكومة الفترة الانتقالية ، فإذا لم نكن عونا لها فلا يجب أن نكون عونا عليها ، الحاضر مليء بتركة تاريخية ثقيلة لا يمكن معالجتها في ظرف ثلاث سنوات ولا يمكن الجزم بإعادة البلاد إلى مصاف الدول المستقلة اقتصاديا في ظل هذه الفترة الانتقالية ، هذا هو الواقع ، ليس تخذيلا وإنما معرفة ، فالمعرفة أساس الفعل ورد الفعل ، من لا يعرف ان البلاد لا يمكنها اذا استمرت بقوة الدفع الذاتي فقط ان تتخطى هذا الجحيم الشمولي في خمسة سنين سيثور عليها من السنة الثانية ، ومن يعرف سيصبر و ( يشيل الشيلة ) .
نملك الماء والأرض الخصبة والمعادن والشواطيء والمناخات المتعددة والثروة الحيوانية ولكننا لا نملك التقانة الحديثة لا نملك الفكر العلمي المتطور لا نملك الأدوات الحديثة لا نملك المال الكافي مما يجعل كل هذه الثروة معطلة إلى حين ، فاقدة لقدرتها على تغطية تكاليف إنتاجها وعاجزة عن القفز بالوطن ، وإلى حين هذه تعني اذا اردناها الآن فان لذلك ثمن ، وإذا اردناها فيما بعد فإن لذلك ثمن .
الثمن المدفوع الآن مقابل الدعم العالمي قد يكون التطبيع مع البنك الدولي ومع التوجه العالمي الرأسمالي تماما ، بينما الثمن المدفوع فيما بعد برفض هذا التطبيع قد يكون عودة الشمولية من جديد ، فالشعب ليس على مستوى واحد من المعرفة ، من يصبر يوم و شهر قد لا يصبر سنة ومن يصبر سنة لا يصبر سنة ونصف والمراهنين على تحمل الشعب من السياسيين عليهم أن يتحملوا بعض اولا ، أن يتعاهدوا فيما بينهم اولا على دعم الحكومة الانتقالية ولو غرقت في شبر ماء ، وبعدها فليطالبوا الشعب بالصبر .
كتب على الأجيال الجديدة التي سطرت ملاحم ثورة ديسمبر ان تحارب التاريخ الشمولي وتركته والحاضر السياسي وبشاعته ، كتب على هذا الوطن أن ينهض ولكن بعسر وصعوبة .
Sondy25@gmail.com