ما بدا تحسراً من طرف المفكر المغربي الكبير عبد الله العروي إزاء حال عالم الطباعة والكتابة والكتاب في ظل الثورة الرقمية (ذاك العالم الذي اشتغل عليه لأكثر من نصف قرن) في محاضرة أخيرة له (بمناسبة تدشين كرسي عبد الله العروي للترجمة والتأويل بجامعة الرباط) حين قال ” قد يقال لي ربما نواجه اليوم مشكلات أكبر وأعوص من مشكلات الأمس لكنها غير التي شغلت بالك سنين طويلة وجهدت في تصور حلول لها” قد لا يكون إلا تأملاً في مفارقة الثورة الرقمية التي قال عنها أيضاً في المحاضرة ذاتها ” في عالم اليوم حيث تعود بقوة الثقافة الشفيهة وحيث يمر الكتاب بأزمة خانقة قد تكون الثورة المعلوماتية والرقمية لاحقة وتابعة زمنياً لثورة الطباعة لكنها جاءت معاكسة لها وقضت على الكثير من نتائجها”
تلك هي مفارقة اليوم مع الثورة الرقمية، حين تبدو القراءة والكتابة في أدنى طاقتها التشغيلية في استخدامات الفرد المعاصر، وبخاصة في عالمنا الثالث.
إن خطورة التبشير بوهم الانخراط عالم رقمي دون أي حيازة معقولة لاستحقاق تحدياته هو ما حذر منه العروي في محاضرته تلك.
لا نتحدث بطبيعة الحال عن المفاضلات بين عالمي الكتاب الرقمي والورقي، بل في صلب عملية التبدل التي تكشف عنها جدلية العلاقة بين الأمية الحرفية والأمية الرقمية. (وإن كان هناك حتى اليوم حيثيات قوية لرهان الكتب وطبيعة استعمالاتها وأوضاع القراءة المتصلة بها).
ذلك أن “مفارقة الوفرة” بحسب طارق متري، أصبحت اليوم هي الاستيهام الذي يغني عن فعل القراءة، فتصور سهولة الحصول على المعلومة يعطي استيهاماً مضللاً يدفع صاحبه إلى تقمص دور المثقف، دون أي قدرة على الاستجابة لمقتضيات ذلك الدور وشروطه، لاسيما وأن المنصات الرقمية سمحت بإمكانيات نشر عابرة.
بطبيعة الحال سيكون ذلك الاحساس المضلل للباحثين عن الشهرة في منصات التواصل الاجتماعي قفزاً على استحقاق لا يتأتى إلا لمن اشتغل على عادات القراءة والكتابة، أي الكاتب الذي يعرف هوية الكتابة. ولهذا فإن خطورة انعكاس أزمات الثورة الرقمية في فعل القراءة ذاته هو الذي ما حذر منه المفكر الكبير عبد الله العروي. فحين صور العروي اشتغالاته في قضايا الكتابة والكتاب على مدى نصف قرن أنها اشتغالات عالم مضى، وأن عالم ما بعد الثورة الرقمية هو عالم لا يعرف طبيعة مشكلاته ولا يكاد يعرفها أحد حتى، كان ذلك منه تحذيراً من بدايات خطيرة لتأثيرات الثورة الرقمية في عالمنا العربي بخاصة.
وبحسب العروي أيضاً، فإن “المجتمع ما قبل الحداثي أنشأ في الماضي وتلقائياً قصص السحر والمغامرات ورسم عوالم العجائب والغرائب، ولكنه تحت ظل الحداثة لم يبدع قصص الخيال العلمي” لهذا يتساءل بعد ذلك” هل المجتمع غير الحداثي يستطيع أن يتصور واقعاً افتراضياً” ؟
ومن هنا ندرك عبر هذه المقارنة الرصينة للعروي، أن مآلات الثورة الرقمية في منطقتنا العربية، وبحسب تعاملنا معها من خارج إطار الدولة الوطنية والانتاج الصناعي والعقلانية الواقعية، سيكون مآلاً لا قدرة له على التعامل مع شروط وتحديات تلك الثورة، فيما يظل الاستيهام الخادع يعمق من فجوات الأمية الرقمية التي هي أخطر من الأمية الحرفية.
إنها بالفعل لمفارقة ؛ بين الأميتين ؛ الرقمية والحرفية، إذ كيف فيما تغدو الثانية شرطاً للأولى ، تبدو الأولى ،في الوقت ذاته، دالة على أمية جديدة لا تنبع حقيقتها من العدم بل من الوفرة! ومن استيهام كبير يتخيل معه البعض أن مطلق استخدام أدوات وأجهزة عمومية بين البشر ربما يكون كافياً لتوهم سويةً خادعة بينهم!
والحال، أن خطورة هذا الوضع تتفاقم اليوم في ظل غياب بنيات مؤسسية للمعرفة والديمقراطية، في بلدان المنطقة العربية. لأن الإشكاليات التي يتوفر عليها محتوى شبكة الانترنت في ظل غياب تلك البنيات سيظل باستمرار محتوى منتج للفوضى والتشويش وتأثيرات البث متعددة الوجهة والمكان.
لقد كان العروي واضحاً في إدراك أن العالم الرقمي القادم إلينا من المستقبل هو أكثر صعوبةً وخطورة مما كان عليه الأمر قبل انفجار ثورة المعلوماتية والاتصال.
فعجزنا اليوم عن التفاعل الخلاق مع الثورة الرقمية، والنتائج الكارثية المحتملة لمفاعيل ذلك العجز هو الذي ينبغي بحث تحدياته.
إن استحالة التصور الذي يمتنع معه مطلق الفعل التدبيري حيال مواجهة استحقاق الثورة الرقمية المعاصرة، في مجتمعاتنا العربية، يمكننا القول أنه القضية الكلية التي قطع العروي باستحالة أي قدرة لنا في الاستجابة لتحدياتها،
بعبارة أخرى، إن العروي يرى بوضوح كارثية الأفق الذي يمكن تفضي إليه تفاعلات الاستجابة المعاقة للثورة الرقمية في مجتمعاتنا في ظل انهيار الإطار الشكلاني للدولة الوطنية. فما يحذر منه العروي، لا يتعلق أبداً بطبيعة المقارنة المغلوطة حول مفاضلات التصور الشكلي لوسائل المعرفة بين الرقمي والطباعي (كما يتوهم البعض) بل يتعلق أساساً بمسار إعاقة خطيرة لفعل القراءة لدينا انطلاقاً من تصور جمعي يتوهم أن مجرد استخدامنا للوسائط الرقمية هو بمثابة تمثل حقيقي للحداثة!
مقالي في صحيفة (عمان) – مسقط – الخميس 13 فبراير/ شباط 2020