ورثت ثورة 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018 في السودان بلداً شبه مدمر على مستوى البنى الأساسية والخدمة المدنية والخدمات العامة والتعليم. وفيما تعاني الحكومة الانتقالية بقيادة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك معاناة لا توصف في سبيل إعادة بعض ما تستطيع القدرة عليه طوال مدتها، التي ستستمر لسنوات ثلاث، بدا واضحاً أن قوى الثورة المضادة تعمل اليوم جاهدةً على كل الجبهات من أجل شل عمل الحكومة الانتقالية ووضع العراقيل في طريقها.
الجهود التي تبذلها الحكومة الانتقالية في كثير من وجوهها تعبر عن بطء ظاهر وتعقيدات كثيرة، لا تتناسب ومتطلبات الإسراع في الاستجابة للكثير من المهام التي تنتظرها لا سيما البرنامج الإسعافي على المدى القصير.
قد لا يبدو على المدى القصير أي إمكانية لحصاد سريع، لكن المهم هو البداية الصحيحة، والتخطيط لحل القضايا الأساسية التي تهدد استقرار السودان، كقضية السلام، والملف الاقتصادي، وتشكيل البرلمان، وتعيين الولاة المدنيين.
هناك ملايين من المهجرين بسبب الحرب الأهلية التي استمرت في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق وشرق السودان، وهناك الكثير من الاستحقاقات التي تواجه الحكومة الانتقالية لتسوية تلك الملفات خلال السنوات الثلاث.
من الصعب التكهن بالمصائر التي ستنتهي إليها المرحلة الانتقالية، لكن من المهم والضروري إدراك أن هذه المرحلة الانتقالية مرحلةً مصيرية، وأن رهان نجاحها هو الذي سينعكس في المراحل التي تليها. لا شيء يبدو سهلاً في هذه المرحلة، ومع فرح الناس بالثورة وسقوط البشير، بدا لكثيرين أن هناك إمكانية سريعة للوصول إلى سلام بين الحكومة الانتقالية مع الحركات المسلحة، وأعطيت أولوية للسلام خلال الشهور الستة الأولى من المرحلة الانتقالية، ولكن ما ظنه الناس سهلاً في عملية السلام، التي ستنتهي المدة المقررة لها بنهاية هذا الشهر فبراير (شباط)، بدا متعسراً، وحتى الآن ظن البعض أن مجرد وجود الجبهة الثورية في التحالف الكبير لقوى إعلان الحرية والتغيير سيكون سبباً ميسراً للوصول إلى حلول، ولكن للأسف بدا التعثر في مسارات السلام بارزاً، كما لو أن الأمر اليوم هو ذلك الذي كان عليه البارحة عبر المفاوضات العبثية بين نظام البشير والحركات المسلحة والمعاهدات الهشة التي كانت تعقد لتنقض في الداخل والخارج.
إن المخاض الذي تجتازه الثورة اليوم رغم عثراته، كشف عن شروخ وندوب عميقة لمخلفات نظام الإنقاذ على مدى ثلاثين سنة. فلم يعد الأمر اليوم كما كان عليه الواقع بعد ثورتي أكتوبر (تشرين الأول) 1964، وأبريل (نيسان) 1985 فقد تم خلال السنوات الثلاثين الماضية تجريف عميق للكثير من ملامح الهوية السودانية التي كانت قيد الإنجاز منذ الاستقلال باتجاه نمو متعثر ولكنه واضح الملامح.
تحديات الثورة ووراثتها لتركة الإنقاذ المسمومة؛ تحديات بالغة القسوة ولا يكفي معها استيهام عموميات الوعي الثوري لكثير من الحالمين، كما لا يكفي ذلك الظن الذي لا يزال راسخاً في رؤى كثير من الأحزاب السودانية باعتبار أن واقع اليوم واقع طبيعي وصالح لاستئناف الممارسة السياسية، كما كان سابقاً.
واقع اليوم الذي ورثته الثورة السودانية يحتاج إلى إعادة تأسيس للصيغة الوطنية، ولوعي جديد بالمواطنة، ولممارسة حزبية وطنية مشتركة للأحزاب عبر الانخراط في عمل عام مشترك من أجل إنجاح مرحلة الانتقال الديمقراطي تضع السودان على سكة الاستقرار السياسي الراسخ.
حتى الآن، لا تبدو هناك بلورة واضحة لبرنامج عمل وطني لديه القدرة على الإمساك بالمصير السياسي، رغم الجهود التي تعبر عنها ممارسات قوى الحرية والتغيير كتحالف وطني وحاضنة شعبية لحكومة المرحلة الانتقالية.
ما حل بالسودان خلال السنوات الثلاثين من حكم نظام الإنقاذ هو تحد كبير يحف مهام الثورة بكثير من المخاطر التي إذا لم يتم التنبه إليها والاحتراز من الوقوع فيها ستكون عواقبها خطيرة.
فحين يعيش بلد ما حروباً أهلية كالتي عاشها السودان، وخلفت انفصالاً لجزء عزيز من الوطن، كما خلفت ندوباً كثيرةً في حياة المواطنين الذين مورست عليهم حروب وجرائم ضد الإنسانية ارتكبها قادة نظام الإنقاذ، سيكون من العسير تطبيع الحياة السودانية لأولئك المواطنين، لأن الثقة لم تعد كما كانت، وستحتاج إلى روح وطنية جبارة لإعادتها كما كانت من قبل. وكذلك سينعكس الإحساس بالمواطنة شعوراً ناقصاً أو حتى معدوماً ، أو لا مفكر فيه.
وفيما لا يبدو عالم اليوم يحفل كثيراً بتعزيز قيم المواطنة بعد الضربات التحويلية التي سددتها العولمة للكثير من بنيات الدولة الوطنية، سيكون مستقبل المرحلة الانتقالية في السودان مستقبلاً حساساً وحاسماً فيما بعد تلك المرحلة.
بطبيعة الحال تظل الثورة أملاً طالما ألهم السودانيين وأعاد لهم ثقتهم بأنفسهم كشعب استطاع هزيمة نظام الثلاثين من يونيو، لكن يظل استحقاق البناء والصبر على عقبات الطريق الثوري الطويل في سبيل إعادة بناء واقع جديد للحرية والمواطنة والشراكة من أهم الرهانات التي تنتظر حكومة الانتقالية وحاضنتها الثورية؛ قوى إعلان الحرية والتغيير.
إن واقع اليوم، الذي تغير كثيراً عن واقع القرن العشرين، سيفرض تحديات جديدة على رهانات الثورة تتطلب استجابات جديدة كذلك.