لم تخرج الجماهير بالامس مطالبة باسقاط الحكومة ، بل خرجت وهي مؤمنة تماما بالحكومة الانتقالية ، وكان خروجها بالتحديد ضد قرار اتخذته لجنة شئون الضباط بالقوات المسلحة بإحالة بعض الضباط الذين وقفوا مع الثوار وقفة بطولية في اعتصام القيادة العامة وكان لموقفهم عظيم الأثر في الإطاحة بالمخلوع ، ولذلك كان مسار التظاهر هو تسليم مذكرة احتجاج ومطالب بإعادة المفصولين وعودة الجماهير لمنازلهم، بيد أن الشرطة تعاملت بعنف مفرط وغير مبرر وليس في مكانه مما فاقم الأمر وحول المسيرة إلى منعطف جديد في مسيرة الفترة الانتقالية .
لو كانت هذه الجماهير تريد إسقاط حكومة حمدوك لخرجت ضد الغلاء والصفوف، ولكنها لم تخرج لأنها مؤمنة بأن حكومة الثورة تمثلها وان القضايا الاقتصادية تحتاج صبرا وعملا ، ولذلك كان خروجها في شأن آخر تماما ، ولم يدر بخلدها وهي تسير في مسيرتها السلمية أن شرطة الحكومة الانتقالية التي جاءت بتضحياتهم قد تمتد اياديها عليهم بالبمبان والهراوات لتعيد للاذهان نفس الصور القديمة لممارسات رباطة البشير ، وهو أمر غير مقبول ، ولن تجامل فيه الجماهير ولن تقف ازاءه مكتوفة الأيدي، بل سوف تواجهه بكل ما تملك .
في عهد الدولة المدنية الشرطة عليها ان تحمي التظاهرات لا ان تواجهها ، فالحقوق المدنية بالكامل مرعية ومصانة في ظل المدنية والانتقاص منها لا يؤشر إلا إلى إحتمال ظهور دكتاتورية أخرى، دفع هذا الشعب مهرا غاليا وتضحيات باهظة لانتزاع الحق في التظاهر وحرية التعبير و الحق في الاعتراض على القرارات الجائرة وليس لديه أي نية للتخلي عنها او التراجع عنها ، لقد تحمل الثوار في سبيل الحفاظ على هذه الحقوق رؤية الكيزان يتمتعون بها في مسيرات زحفهم الاخضر، ولذلك لا يظنن أي تيار او جهة بأن الجماهير سوف تتسامح او تغض الطرف عن أي تجاوز يستهدف حرمانها من هذا الحقوق بعد ان انتزعتها بالدماء والتضحيات.
بيان الحكومة الانتقالية كان حمال أوجه، ورغم إدانته للعنف وتعهده بالتحقيق والمحاسبة الا انه لم يكن قويا بما يكفي في التعهد بحماية الحريات العامة والحق في التظاهر والتعبير ، وهو ما قد يدفع ببعض الشك في نية الحكومة الانتقالية المستقبلية وهو ما يستوجب تدخلا عاجلا من قوى الحرية والتغيير لتذكير الحكومة بواجباتها المدنية ، كما يستوجب الإسراع في تشكيل المجلس التشريعي من أجل حماية هذه الحقوق والحريات وحراستها امام أي تغول تنفيذي مستقبلي .
هناك مواقف ممتازة من شباب الوزراء الاتحاديين نصرالدين مفرح وولاء البوشي ومن ولاية الخرطوم ناظم سراج ، اظهروا فيها وقوفهم الكامل مع حق الثوار في التعبير والتظاهر وادانتهم للعنف واستعدادهم لأي خطوة تقف مع حق الجماهير، وهي مواقف تشبه الثورة ، وتؤكد بأن هؤلاء الشباب يعلمون أن الحكومة ليست الا ضل ضحى وان مواقعهم هذه لو لا الشارع لما جلسوا عليها ، وأنهم اولاد الثورة والشوارع والمواكب منها وإليها ، أيضا كانت المواقف السياسة جيدة للاستاذ عمر الدقير رئيس حزب المؤتمر السوداني و مني اركو مناوي و بيان الأمانة العامة لحزب الأمة القومي وتصريحات قادة الحزب الشيوعي و حزب البعث والتي اكدت على انهم جميعا لن يداهنوا في الدفاع عن الحقوق والحريات العامة التي انتزعها الشعب عبر نضال طويل ومر . هذه المواقف مجتمعة دلت على ان الثورة أعمق من ان تقتلع مكاسبها جهة او يحط من حريتها تيار ، وأن الحقوق المدنية دونها خرط القتاد.
sondy25@gmail.com