يوم إنتصرت ثورة ديسمبر المجيدة ، لم تكن جموعُ الثوار حينها (تُقاضِل) بين قادتها ورافعي شعاراتها والمتحدثين بإسمها في المنابر الإعلامية من حيث الولاء والقبول و(الإذعان) ، إلا بمقدار ما كان (يشوِّش) على تاريخ بعضهم في مادة (الإرتباطِ المصلحي) بالعهد البائد ، وهذا من المنظور العام يعني أن ثورة ديسمبر المجيدة لم تتدثَّر في أيي مرحلة من مراحلها بثوب آيدلوجي واضح المعالم يمكن وصفهُ بأنه المُحرِّك والمُنظِّم الإستراتيجي للحراك الثوري ، وفي إعتقادي أن أهم السِمات التي دفعت الثُوار للثقة الجامحة تجاه تجمع المهنيين السودانيين وتنصيبهُ (موجِّهاً) أوحداً لحِراك الشارع أنهُ أبدى إستقلالهُ السياسي في البدايات ، ولكن في حقيقة الأمر وبعد إنقشاع غُبار المعركة إكتشفنا (هيمنة) واضحة وغير مخفية لإتجاهات اليسار بشتى ألوان طيفه داخل هياكلهُ ، فآثرنا تفسير ذلك بأن (ضرورات) المرحلة ربما فرضت ذلك ودعونا الجميع للتركيز على (حماية) المباديء والقيِّم والشعارات التي رفعتها جماهير الثورة دون الإلتفات إلى (الهوية) السياسية والآيدلوجيه لمن يقف خلفها ويدعمها.
أما الأن وقد بدأ فقه (التنصُل عن العواقب) يوسِّع مساحاته بين قيادات الثورة ، وخصوصاً أولئك الذين يحرصون على الإبتعاد عن لهيبها إذا إشتعلت ، وإحتضانها وتبنَّيها إذا خمدتْ و إزدهرتْ وأينعَتْ ثم حان قطافها ، نقول لهم أنتم مسئولون أمام الله وأمام الشعب السوداني عن مآلات ثورة ديسمبر المجيدة مسئولية مباشرة شكلاً ومضموناً ، وأن الفترة الإنتقالية بإيجابياتها وسلبياتها هي (صُنع) أيديكم شئتم أم أبيتم وسيُسجِّلُ التاريخُ أنكم كنتم سدنتها سواء أن كنتم تتولون مناصبها الظاهرة أو الخفية ، وسواء أن كنتم تقفون خلف السور تراقبون وتنتقدون وتدرأون الذنب والمسئولية عن عاتقكم بإبداء الحسرة وعدم الرِضا لكن هيهات.
لا نقبل أن يصدرُ عن عمر الدقير وهو أحد قيادات الثورة وشاغلي منابرها إبان قدَّم المئات من الشباب أرواحهم فداءاً لها تصريحاً مفادهُ (لا علم لي بجهة إصدار قرارات التعيين في المناصب الشاغرة ولا أعرف شيئاً عن آلية عملها) ، ولا نقبل أن يجأر محمد عصمت بالشكوى وقد كان أيقونةً من أيقونات الثورة إبان إستجابة البسطاء من محدودي الدخل لدعواته للعصيان المدني مُضَّحين بمستقبلهم المهني والمادي رغبةً في الإنعتاق ، أن يقول (نحن داخل تجمع قوى الحرية والتغيير مُغيبين عن آلية إصدار القرارات وتحديد التوجهات لما بعد الثورة) ، وأخيراً لا نقبل من مريم الصادق وقد كانت ممُثلة للمرأة السودانية الصامدة إبان مراحل عديدة للثورة المجيدة كان آخرها عضويتها في لجنة مفاوضات المكوِّن المدني مع العسكر ، أن تتقدم بإستقالتها من الآلية الإقتصادية وتقول (حتى لا أشارك في ما يمكن أن يحدث من فشل).
إنهُ يا سادتي فقه (التنصُل من المسئولية) الذي وللأسف لا يُشير عندي إلا على الأنانية وحُب الذات وعدم التجرُّد ، فإن كانت الكيانات مثل قوى الحرية والتغيير أو اللجان مثل الآلية الإقتصاية فيها ما فيها من (أخطاء) و(مُنغِّصات) ، هذا لا يعني الإستسلام والركض سريعاً لضمان الخروج من دائرة المسئولية ، فالقيادات التي (تمتَّعت) بإسم الشعب في زمان سابقِ بالنجومية وذاقوا حلاوة الإمارة والقيادة ، هُم مسئولون عن (إضرام) شرارة الثورة داخل مؤسسات (الثورة) إن حادت عن سواء السبيل ولا مكان لهم في مقاعد المتفرجين والمُتبرئين من أوزارها.