لم تُخطئ رئيس القضاء في التصدي لعملية الاعتداء الذي حدث لقاضي مدينة الفاو، بل الواجب يُملي عليها أن تفعل ذلك، ونحن نقف بقوة مع احترام القضاة والقضاء، وعدم المساس بهيبة ووقار القاضي سواء كان ذلك في ديوان محكمته أو في سوق الخضار، بيد أن هناك ضوابط وقواعد تحكم معالجة حالات الاعتداء على القاضي أو الانتقاص من هيبته نوردها فيما يلي، ثم نقيس عليها ما ورد في بيان رئيس القضاء الذي انتهى بإعلان تعطيل عمل المحاكم:
هناك تمييز بين الحالة التي يتم فيها الإعتداء على القاضي بصفته القضائية أو بسببها وبين الاعتداء عليه وهو يمارس حياته العادية كمواطن في المجتمع يبيع ويشتري وينتظم في الصفوف، وفي الحالة الأخيرة لا تنسحب صفة القاضي عليه لمجرد قيامه بالإفصاح عنها بعد حدوث الواقعة التي جعلته طرفاً في نزاع لفظي أو بدني مع طرف آخر.
انظر إلى تطبيق هذه المعاني في المعالجة التي اعتمدها القاضي حسن عيسى، قاضي جنايات الخرطوم جنوب (1981) في قضية كان طرفها القاضي المتدرب حينها عبدالرحيم التهامي (أصبح قاضي محكمة عليا فيما بعد)، وتتلخص وقائع تلك القضية في أن صاحب كشك للجرائد رفض بيع نسخة من إحدى الصحف للقاضي عبدالرحيم بدعوى أنها محجوزة لزبون آخر برغم معرفته الشخصية به وبكونه قاضياً، رفض عبدالرحيم حجة البائع وألقى القبض عليه بواسطة شرطي، ومن ثم قام بفتح بلاغ جنائي في مواجهته تحت بند جريمة (رفض البيع).
في المحاكمة، انتهى القاضي حسن عيسى إلى براءة صاحب كشك الجرائد استناداً على بطلان إجراءات فتح البلاغ، وقال في بيان ذلك أنه كان على القاضي أن يتقدم بمظلمته بموجب عريضة شكوى أمام قاضٍ آخر، ولا يتخذ الإجراء بنفسه، لأنه ليس هناك أي اعتبار لصفة الشاكي كونه قاضياً في هذا البلاغ لأنه لم يكن يمارس أي عمل رسمي بشرائه للجرائد. (يذكر أن عبدالرحيم كان يعمل في نفس المحكمة).
خطأ رئيس القضاء أنها تولت بنفسها سرد وتوصيف وقائع حادثة الاعتداء، وانتهت في ذلك بإصدار حكم بإدانة المعتدين قبل أن يسبق ذلك تحقيق وسماع الشهود والأطراف، وبما يجعل المرء يتساءل: كيف يمكن محاكمة هؤلاء المعتدين أمام القضاء بعد أن تمت إدانتهم بواسطة رأس السلطة القضائية، وبعد أن انتظم جميع القضاة الآخرين في إضراب تضامناً مع زميلهم المُعتدى عليه؟
بحسب تقديري، أن سبب إندفاع رئيس القضاء بمثل هذه المعالجة الخطيرة هو طبيعة وصفة المعتدين، لكونهم ينتسبون إلى قوات نظامية، بما جعلها تنظر للمسألة كأنها معركة بين نفوذ وسلطة الجهتين، فلو أن الذين اعتدوا على القاضي كانوا عمال طلمبة الوقود أو مجموعة من أصحاب السيارات المصطفين مع القاضي، لتمت المعالجة في إطار القانون بتقديم شكوى من المعتدى عليه والقبض على المعتدين، ومحاكمتهم طبقاً للقانون.
قد يكون الرد على معالجة رئيس القضاء بأن الجهة التي يتبع لها المعتدون قد رفضت تسليمهم أو تباطأت في ذلك، والرد على ذلك، أن هناك جهات أعلى من تلك الجهة تنتهي بالقائد العام للقوات المسلحة كان على رئيس القضاء مخاطبتها حتى يصح الصحيح قبل اتخاذ هذه الخطوة التي تسببت في أزمة قومية.
وأخيراً، الإضراب ليس من الوسائل الدستورية ولا القانونية التي يمكن أن يستخدمها القضاء طريقاً لمعالجة قضايا الظلم التي يتعرض لها منتسبوه، والمرة التي حدث أن أعلن فيها القضاة الإضراب، كان ذلك للدفاع عن (وجود) كيان القضاء نفسه، ونتيجة لقيام حكومة النميري العسكرية في عام 1983 بفصل أعداد كبيرة من القضاة من بينهم أعضاء لجنة القضاة.