ألحّ عليّ جدو محمد ود درار قبل سنوات أن ازور مدرسته من باب اعتزازه بوظيفته بوصفه معلماً مبتدئياً بمدرسة الأساس بنين بدنقلا العجوز (قرية القدار).
لم استطع فكاكاً من إلحاحه في إجازة ثمينة يصعب توازن سويعاتها حينما تتنافس نساء القرية بأن المبيت اليوم بدارنا وأخرى تصرعلى أن الوليمة عندها لتحسمها خالتي توأمة روحي مريم كانور راجلة بالدربوق من حلة الحمنتوني لحلة ود درار، قاطعة ذات الحفير الذي تقول حكايات التاريخ أن المفتش التركي في ذات أمسية أشعل غيلونه ومدّ بصره لفضاءات تلك القرية التاريخ والأرث الحضاري الذي ما زال في باطن الأرض.
النهر يسورها كالمعصم، وأي بذور تدفق بترابها تنضج قمحا وفولا ولوبيا، فهب ناهضا من متكئه، وجلست أنسه ساعة الضحوية ليقيس الطول في العرض، ويعقد العزم علي إنشاء وابور زراعي أشرف علي تركيبة وحفر ترعتة العميقة التي سقت الزرع، وقطعت العطش ردحاً من الأزمنة، وما عادت الصبايا يحملن جرار الماء من النهر صباح مساء. نساء القرية ما زلنا يتجادلن بينهن عائشه ياسين وفطومة بعضة بالرطانة وقليل منه ما أستوعبه، وبت كانور تلح بأن يوماً، لا يكفيها وكيف يكفيها، وهي أمة تمشي علي رجلين، وفي ثنايا دارها أقدم نخلة مدينية احد أطيب أنواع التمور الذي لا يجفف، فيؤكل كرطب يدفق بعضه تحت أيادي طلبة العلم، وهم مشينا علي الاقدام او علي ظهور حمير رشيقة تتنافس لايصال راكبيها قبل أن تدق أجراس المدارس، و تفرعت النخلة العتيقة الوقف المباركة لأخريات منذ أن غرسها جدي كانور ضوء البيت، منذ مئات السنين وأسباطها تتدلي وتدفق رطبا شهيا. يا ترى من علم كانور في ذلك الوقت الموغل في عظم التاريخ أن الوقف جذوره في باطن الأرض، وثماره نبت طيب حلال يكفي أهل الدار وعابري الطريق، وبعضه طرود تصل طازجة باللواري لمن سكنوا الخرطوم كخالاتنا.
وييسر الله لنا زيارة المدرسة برفقة جدو التربال الخلوق حافظ القرآن والذي أجاد التوازن ما بين الطباشيرة والطورية، وما ان دلفنا لساحتها الفسيحة وحبات الرمل الحمراء تتلالأ كأنها الياقوت المدروش بعناية إلا وحولنا تلاميذ يافعون ذو شخصيات منسجمة وواقعهم. نظراتهم تدل على ثقتهم فبأنفسهم رغم الملابس التي تفضح شظف العيش، أجسادهم نحيلة، واياديهم مفتولة، وأصابعهم خشنة، فأوقاتهم موزعة بدقة متناهية ما بين أحواض الزرع والضراع والنوريق وأداء الواجبات المجتمعية، وملاحقة الشبكة العنكبوتية ما بقى في الوقت متسع.
دخلنا حجرة ” المعلم جدو ” هالكة بل آيلة للسقوط بين لحظة وأخرى فرجوت مدير المدرسة هذا الفتحي النصرالدين الصنديد، وكفى أن يجلس ورفاقه من المعلمين، ولو تحت ظل شجرة، وكان هذا دافعا لقيادة حملة لصيانة كامل فصول المدرسة، وبرعاية الدينمو الهمام كمال محجوب الذي هندس أوقاته، وواذزنها ما بين حواشته وأهل داره وهموم المدرسة كأمين لمجلس الآباء، وباستنفار الاهالي شيباً وشباباً والمعلمين، وهذا هو بيت القصيد النفير، الذي أوصلنا لصيانة المدرسة رقم خمسة بفلسفة أن الأهالي شركاء أصيلون في المدارس والشفخانة والشارع، وبحمدالله تم استصلاح مساحة أربعة افدنة في محيط مدرسة الأساس بنين بالقدار، وزراعتها بالفاكهة والنخيل، وتسويرها وحفر البئر الارتوازية، وتدريجيا تم أإدخال الكهرباء، وظل حصاد البرسيم يرفع الرسوم المدرسية عن كاهل الأسر المتعففة والأيتام، وبالأمس بعد مرور خمس سنوات كان أول حصاد لثمار البلح، عشر جولات بالتمام والكمال، وكان هذا مدخلاً لتأهيل مدارس أخرى، نحدثكم عنها تباعا كأنموذج للمسوؤلية المجتمعية نحو الأهل والاوطان وأبنائها في شتات الارض والقومة ليك يا وطن.
اعلامية وناشطة اجتماعية مقيمة بقطر
Awatifderar1@gmail.com