قلم في الغمد وصحائف انطوت!! (1-2)
منصور خالد
سيف الدولة أحمد خليل
- في غمرة انغماسي في دهاليز الأسافير، تواصل معي من اعزه، معزياََ وناعيأَ رجلاََ يعلم مدى محبتي له وافتتاني بما يكتب ويجترح، وقد اخذني هذا النبأ الموجع،على حين غرة وأصابني كسموم مداري في نهار قائظ. هكذا، بهذا الخبر الموحش لم تعد أشيائي هي الأشياء. فقد رحل من جعل للكتابة حياة وروحاََ، رحل رحيل مغن لم يكمل لحناََ على شفاه عاشقة طروب.
- فعلى مثل راحلنا تبكي البواكي بساجم الدمع، وأنا ممن يلزمهم البكاء فما بيني وبين الرجل آصرة تطاول مداها، منذ يفاعتي وإلي يوم الناس هذا، فأني اقرأه بخشوع وأحسن التبتل في محاريب اسفاره، ارتحل معه الي ايطاليا في منتصف الخمسينيات، أحاور معه صفوتهْ في الستينات، واكون في خيار القائلين لما يجب ان يُسمَع وابحث عن النور في اوخر نفقه المظلم في السبعينات ، وتجدني عبدأََ تعار في فجره الكاذب انتظارا لفجر ابلج في الثمانينيات، ومقيماََ في سرادق عزائه على النخبة في التسعينيات، ورفيقا له في اهوال الحرب وظاعناََ بين دولتين، ومتأملا في مخيال العرب، وجزعا فرقا حينما تتكاثر الزعازع وتتناقص الاوتاد، ومتبتلا في رحاب الماجديات في الالفينات ولا امل ان اكون معه في رثائياته واماديحه وحواراته، فعزائي ليس واجباََ فحسب بل هو وفاء الصحبة. صحبة توطدت عراها، بفضل والدي عليه الرحمة، فهو من قراء الرجل وهو من يشهد بأن “ود “ودعبد الماجد” فقيه عالم وانه ثاني اثنين في اجادة الكتابة باللغة العربية هو ومحمود محمد طه”!
- بكل عوار وخوار، استحصد عزمي واستجمع ما بقي مني، وبقلم عميق الجراحات، فتيق الاحزان، ذريف الدمع، هصور المواجع، اعزي نفسي وانعي لكم منصور خالد!
- هكذا منصور خالد! مفردً في صيغة جمع، فكأنه اسم جنس جمعي كما يخبرنا النحاة..فإن قلنا منصور خالد فقد عنينا قبيلة القانونيين، الدبلوماسيين، الصحفيين، العلماء، الكتاب، المفكرين، السياسيين، المناضلين والمثقفين الاحرار.
- لم يُعَرِّف الراحل نفسه بغير منصور خالد!
ليس ثمة ما يخفيه او يستعر منه، ولو اشار الي لقبه الاكاديمي لميز نفسه وانماز عمن عداه، لكنه فخور بأنه منصور خالد، الذي لم يكن من عوام الناس او اواسطها فهو بمعايير مجتمعنا طيب الأرومة كريم المنبتْ، وهذا ما لم يفاخر به منصور او يستثمره كما يفعل رصفاؤه ممن ولجوا العمل العام، ولم يعرف عموم الناس له نسبا، غير انه “منصور خالد”، ديباجة للتميز، ما جعل الراحل عمر الحاج موسى في خطاب اشتهر،ان يضع كل فئات الشعب السوداني في كفة و”المنصور ” في كفة بالاشارة اليه حصراََ ب” ومنصور خالد” ، وهو ما استعاره البروف عبدالله علي ابراهيم لكتاب الفه موسوماََ ب ” ومنصور خالد”
- لم يشر الراحل الي نسبه الا في اخريات ايامه والمتأخر من مكتوباته كما جاء في “الماجديات” ..
وهذا لم يكن اعتباطا فقد اراد منصور لنفسه ان يكون منصور خالد هكذا، وكأنه يريد ان يؤكد انه عظيم بذاته لا باسلافه.
- هو باكورة أبناء الشيخ خالد محمد عبدالماجد حامد النور، فهو ابن الشيخ خالد وحفيد الشيخ محمد عبدالماجد حامد ( ود عبدالماجد) العالم المالكي المتصوف، وهو ممن اشتهروا بالصلاح ، ومن مرويات اهل السودان عامة واهل امدرمان خاصة، ان الشيخ قريب الله الطيار قد شوهد في جنازة (ود عبد الماجد) يتابط نعليه ويمشي على اطراف اصابعه، فحينما سئل، حكى ان الملائكة تسير مشيعة ود عبد الماجد، غض النظر عن صحة الرواية او عدم صحتها ومنطقيتها، فانها مما يشار به الي الفرادة والعظمة في مجتمعاتنا التي تؤسطر من تستعظمهم وتجلهم، ولم يكتف المنصور بجمع المجد من طرف واحد، بل حاز على كريم النسب من ناحية والدتهْ فأمه السارة ابنة الفقيه الشيخ أحمد الصاوي عبدالماجد قاضي الشرع واستاذ الفقه. وعم المنصور هو عبدالعزيز محمد عبدالماجد،الفقيه العالم والأديب الأريب والذي اشتهر ب (الدباغ).
هذه بيوت من اعرق بيوت امدرمانْ التي اشتهرت بالتقوى والصلاح وكانت مثابات علم يؤمها طلاب العلم من كل انحاء السودان، وكانت حَضْرَاتِِ تكاثر أضيافُها وآمُّوها من طلاب العلم والحاجةِ، ليتملوا في وجوهٍ وضيئةََ بنور العلم والتقوى، ووجوهِِ خصيبةِِ تجودُ بالقـِرى وتتصدَّق بالبشاشة والتبسم. ولا شك انه، من هذا الفضل العميم، قد اغترف المنصور واحتاز. من باب الجين ومن باب ” الحقنا بهم ذرياتهم وما التناهم من عملهم من شئ”
- منصور خالد امدرماني المولد، فقد صرخ صرخة الحياة في حي الهجرة في العام ١٩٣١م وتربى في كنف والديه واعمامه واخواله زاهدا متصوفا كدأب اسلافه نهل من علوم الشرع والفقاهة وحظاََ من كتاب الله، وهذا ما هيأه لاجادة اللغة العربية والتمهر في الكتابة بها.
- سيرة منصور التعليمية تقول انه قد درس الخلوة في دار جده ، ثم المدرسة الاولية بالهجرة ، والوسطى بام درمان الاميرية، ووادي سيدنا الثانوية ثم جامعة الخرطوم كلية الحقوق. وحينها كانت تعرف بكلية غردون او كلية الخرطوم الجامعية،ولعُ منصور بالصحافة دفع به لان يكون مراسلا لوكالة “الصِحافة الفِرنسية” وهو لا يزال طالبا، ولاجادة عمله كمراسل اضطر لتعلم اللغة الفرنسية ملتحقا بالمركز الثقافي الفِرنسي بالخرطوم. وبدا ان اللغة الفرنسية قد استهوته، فما ان تخرج في العام 1956م، الا وذهب الي فرنسا في منحة دراسية لتعلم الفرنسية.
- بعد مسيرة عملية قصيرة في فرنسا بمجلة افريقية مقرها باريس، ثم في الجزائر قرر السفر لأمريكا ليلتحق بجامعة بنسلفانيا بولاية فلاديلفيا لنيل الماجستير في القانون الدولي. ثم تمكن، بمنحة دراسية اخرى من دراسة النظرية الاقتصادية بنفس الجامعة ومن خلال مسيرة عملية في اليونسكو عاد مرة اخرى لباريس ليحصل على الدكتوراه في القانون من جامعة باريس.
- كان للمنصور اهتماماًَ بالفنون الجميلة وبرع فيها هونا ما ايام صباه، الا انه قد أُخذ عنها الي ما استوعبه وشُغل به. ففي المرحلة الثانوية ولع بالادب العربي والشعر الجاهلي وادمن فبهما بحثا، وقد افتتن ايما افتتان بالمتنبي. وقد مارس المقارنات والنقد الادبي وهو بالمرحلة الثانوية، فقد كانت له جداريات في مدرسة وادي سيدنا تحكي عن معارفه وحذقه لما يدرس. وقد انعكس تحصيله في هذا المجال في صولاته بالجمعيات الادبية التي كانت تنشط في المدارس آنذاك.
ومما اشتهر به المنصور، الكيفية التي كان يقرأ ويطلع بها، فقد قيل ان الكتاب الذي يقرأه منصور لا يستطيع ابن انثى ان يعقبه عليه، فهو يضع العلامات والخطوط فيما يقف عنده من الكتاب، بل ان المنصور كان يتزيد فيما يفعل اذ يجعل للكتاب حواشياََ غراء يدون فيها شروحاته واستفهاماته.
وكما ذُكِر انه كان مولعاََ بقراءة الصحف التي عادة ما يقرأها مستعينا بمقصِِ، فما تفتأ الصحيفة في يده الا ان تكون قصاصات يعمر بها جيبه.
- سيرة منصور العملية غنية متنوعة كانت من الثراء بدرجة اضافت له ما ميزه عن غيرهْ، وقد امتهن من المهن ما هو معطاء، مهن اضافت له كثيرا من المعارف والصحبة الماجدة.
عمل المنصور في الصحافة، كمراسل لوكالة “الصِحافة الفِرنسية” وهو لا يزال طالباََ جامعياََ، وتوسع اهتمامه بالصحافة بأن غدا مراسلا مستقلا لعدد من الصحف اليومية السودانية، منها صحيفة (النيل)، (المستقبل) ، ثم في مجلة Présence Africaine بباريس حين وفد اليها في رحلته الاولى. والوطن والجمهورية والاشتراكية، كما يتهمه اعداؤه ومناجزوه بأنه قد عمل في صحيفة الناس لصاحبها المظنون، محمد مكي محمد، وهذا مما لا يقف عنده المنصور نفياََ او اثباتاََ.
- كما عمل المنصور في مجال المحاماة فازدانت به مكاتب كل من فاروق أبو عيسى، إيميلي قرنفلي، الفاتح عبود وفي الأثر انه عمل مع محمد أحمد المحجوب ايضا.
- ايضا لقد عمل سكرتيرا لرئيس الوزراء البيه او الاميرلاي عبدالله خليل بك (56 -1958)م.
وبعد رحلته الي باريس والتي انتهت به الي الجزائر عمل ضابطا بالإدارة القانونية بالأمم المتحدة كأول إفريقي يتبوأ هذا المنصب ،وقد اسهم من موقعه هذا في المعالجة القانونية لأزمة الكونغو، ثم بممثلية الأمم المتحدة بالجزائر اذ تم إلحاقه بمنظمة اليونسكو عند عودته الثانية لباريس.