التسامح أجمل صفة للإنسان، وتصالح الإنسان مع نفسه أكبر هبة من الله سبحانه وتعالى. ديننا “الإسلام” بسيط، تلخصه كلمتان “الدين المعاملة”. وعندما يجد الإنسان هذا المبدأ الإسلامي محققاً في الواقع، وممارساً ممن يحبهم، ويثق بهم، فإنه يكتسب مناعة ضد التعصب بسبب الدين، ثم بسبب أي اختلاف يمكن أن يكون بين البشر.
ولعلي أقول إن تجاوز التعصب الديني هو الذي يكسب المناعة ضد أي تعصب. وأرى ذلك لأن الدين هو أعلى قيمة يمكن أن يتمسك بها الإنسان، حتى إذا لم يكن متديناً.وقد رأيت أمي “فاطمة زبير” رحمها الله تمارس التسامح في أعلى درجاته، فهي لم تسألني يوماً عن ديانة أي صديق من أصدقائي، وخصوصاً أن حينا القاهري “شبرا” من أكثر الأحياء التي بها مسحيون، بل كانت تبالغ في الترحيب بأصدقائي من المسيحيين لإزالة أي حاجز في التعامل، وفي الوقت نفسه، كنت أجد الترحاب من أمهات أصدقائي المسيحيين وآبائهم، وكنا نتبادل المبيت في منازلنا، فكنت أصلي في بيوتهم من دون حرج، وكنت أجهز الأكل المباح لهم في منزلنا إذا كانوا صائمين.
وكان صديقي عماد نبيه يحرص على أن يأتي إلي في نهار رمضان لنلعب سوياً الكونكان، حتى أتسلى ويخفف علي الصوم، وكنا صغاراً.وكنا نتشارك في تزيين الشارع في رمضان، وكان من المعتاد أن تجد جرجس يضع لافتة في الشارع مهنئاً المسلمين برمضان أو أحد العيدين، وكذلك تجد محمداً يهنئ يإعلان كبير الإخوة الأقباط بعيد القيامة المجيد، ويتبادل الجميع التهاني بأريحية، وتتبادل الأسر كعك العيد، وفسيخ شم النسيم، وكان البيض الملون في كل بيت من دون أي حساسية، والتفذلك في مدى المشروعية، لأن الأمر لا يمس جوهر الدين بأي حال.
ويبدو أمر طبيعياً أن تذهب إلى صديقك في الكنيسة لأي أمر من الأمور، أو أن تحضر عرساً أو مناسبة من مناسبات الإخوة المسيحيين فيها، بل هناك من يطلب في الحي من العاملين فيها الإبلاغ عن انقطاع في المياه أو الكهرباء لضمان سرعة الأستجابة بوصفها جهة اعتبارية.
كانت البقالات والمحلات تتجاور، فلا يمكن أن يكون التفاضل على أساس ديني، بل كان البقال والمكوجي والترزي وبائع الخضار والفواكه الذين نتعامل معهم أكثرهم من المسيحيين، ولم يكن المسلم الذي يعمل في المجال نفسه يتحسس من هذا التفضيل، لأن لديه أيضاً زبائن من المسيحيين كانوا يرونه الأفضل.عندما تزوجت من ربع قرن كان أكثر أصدقائي من المسيحيين الذين تكفلوا بتوفير السيارات، والتصوير، وتنظيم الحفل، ولعلي أذكر هنا الصديق فارس عبدالملك الذي ظل يخدم جميع أصدقائه في مناسباتهم بأريحية وشهامة منقطعتي النظير، وهو يضع سيارته تحت أمرهم.
هيج الذكري في داخلي أن التهنئة الأولى بشهر رمضان المبارك كانت من الصديقين المهندس عماد نبيه حفظي والأستاذ فارس عبدالملك من مصر، كما هنأني بكلمات رقيقة السوداني (ابن السودان الواحد) الدكتور ماجوك جاك ماجوك.ولعل الإنسان المغتر هنا أو هناك شعر بوحدة الإنسانية في زمن الكورونا الذي لم يفرق بين البشر بسبب الدين، فمات كثيرون من الأطباء المسلمين في الغرب، وبينهم سودانيون، وهم يحاربون هذا الوباء، ويقفون بأجسادهم وأرواحهم سداً منيعاً من أجل شفاء الآخرين، وهم متيقنون أن الآخرين أغلبهم من المسيحيين بالطبع، ولا شك أن الأطباء من يهود ونصارى فعلوا الأمر نفسه، وهم يقومون بدورهم في تقديم العلاج.ليت الإنسان يقف برهة ويفكر أنه ليس له إلا ما سعى، ولتكن “المعاملة” معيار تمسك أي منا بقيم دينه، فالله طيب لا يحب إلا طيباً، فكونوا طيبين، ولتشمل طيبتكم الإنسان من دون فرز بسبب دين، أو عرق، أو جنس، أو أصل.كل عام والجميع بخير ومحبة.