منهج الاستلاب :
لقد انبهر عدد من المفكرين والمثقفين المسلمين بالحضارة الغربية بصورة أعمتهم عن النظر إلى سلبياتها؛ ولم يميزوا بين التبر والتراب؛ لقد اعتبر بعضهم أنّ الخير كل الخير في اتباع الغرب في كل صغيرة وكبيرة! والشر كل الشر في مخالفته؛بل إنّ بعضهم يعتقد أن التخلف الذي نعيشه سببه الإسلام! فإذا أردنا أن نلحق بركب التقدم؛ ما علينا إلا أن نترك الإسلام جانباً، ونتبع النهج الذي اتبعه الغرب! ويقولون إنَّ أوروبا لم تتقدم إلا عندما تحررت من سلطان الكنيسة . هذا الشعور هيمن على كثير من المثقفين طيلة القرنين التاسع عشر والعشرين، وخلق جفوة بين التَّديُّن والمدنية. هنالك عدة عوامل ساهمت في خلق هذا الشعور المنبهر بالآخر:
العامل الأول: هو ما وصلت إليه الحضارة الغربية من تقدم في مجال العلوم والتكنولوجيا، وبناء الدولة الحديثة التي تقوم على المؤسسات، وسيادة حكم القانون، والتداول السلمي للسلطة، وعند المقارنة يظهر تفوُّق النظام السياسي في الغرب على النظم السياسية في البلدان الإسلامية.
العامل الثاني : هو تخلُّف الخطاب الديني في المجتمعات الإسلامية عن مواكبة تطورات العصر؛ بل وفي بعض الأحيان يعتبر كل ماأتى من الغرب ماهو إلا مظهر من مظاهر الكفر! ويُروى أنَّه عندما ظهرت المطبعة لأول مرة في العالم الإسلامي؛ استشير بعض العلماء في تركيا؛ هل يجوز أن يُطبع المصحف على الآلة ؟ فاجتمع مجلس العلماء وقرر أنه لا يجوز أن يُطبع المصحف في المطابع؛ لأن ماكينة الطباعة سوف تضغط على الكلمات عندما تريد طباعتها وكلام الله يعلو ولا يعلى عليه !! هذا النوع من الفهم كان سبباً في خلق تناقض بين الدين والتقدم. وكثير من الشباب الذين تلقوا تعليمهم في المؤسسات التعليمية الحديثة واجهوا أسئلة متعلقة بالعلوم، والمدنية، ومقومات الحضارة؛ فلم يجدوا أجوبة مقنعة مما دفعهم إلى تبني النظريات الوضعية ليعيشوا عصرهم.
العامل الثالث : هو الإستبداد السياسي الذي قتل روح الإبداع والمقاومة في الإنسان؛ وبالتالي أدى إلى جمود في الفكر وتعطيل لوظيفة العقل .
العامل الرابع : الإستشراق : لقد تناول كثير من المستشرقين الإسلام بصورة مشوهة غطت على الحقائق وخلطت بين مبادئ الدين وممارسات البشر؛ وفي المقابل مجدت الحضارة الغربية وأظهرتها في صورة الفردوس الموعود .
العامل الخامس: الخلط بين دين الإسلام وما كان يمارسه رجال الدين في الغرب: كثير من دعاة الحداثة أسقطوا مفهوم الدين على كل الأديان وظنوا أن ما قام به رجال الكنيسة في الغرب من مفاهيم معادية للعقل وللعلم وللحرية ولكرامة الإنسان يقره الإسلام! فقد أسقطوا ممارسات رجال الدين على الإسلام ولم يدرسوا الإسلام من مصادره ليعلموا حقيقته.
هذه العوامل وغيرها كانت سبباً في تهيئة الأمة لما أسماه المفكر الجزائري مالك بن نبي: “القابلية للإستعمار ” .
لقد سيطرت على العالم الإسلامي – في الغالب – تيارات استمدت مفاهيمها من النّهجين المذكورين- نهج الإنكفاء ونهج الإستلاب- وهي تيارات من الصعب أن تلتقي على قواسم مشتركة؛ لأنها تتبع مناهج لا توجد فيها مساحة للآخر، ولديها أحكام مسبقة ضد مخالفيها، فنهج الانكفاء يعتقد أنّ كل ما يحتاجه المسلم موجود في ما تركه السلف من اجتهادات ومفاهيم، وأنّ أي اقتباس من الآخرين هو ضلال مبين. ونهج الإستلاب يحكم على الإسلام من خلال واقع المسلمين المأزوم؛ ويسقط ممارسات رجال الدين في الغرب على دعاة الإسلام وعلمائه؛ فكما أنّ الغرب لم يتقدم إلا بعد تحرره من سلطان الكنيسة؛ فعلينا أن نبعد الدين من الحياة العامة – وخاصة السياسة – حتى نتمكن من اللحاق بالعصر الحديث! ورفعوا شعارات القومية والوحدة والنهضة والعلمانية وغيرها من الشعارات البراقة فلم يحققوا في الواقع شيئا منها بل حققوا نقيض ما نادوا به!
لقد ضاعت حقيقة الإسلام الوسطية؛ بين هذين التيارين اللذين علت أصواتهما واختطفا شعار الدفاع عن هوية الأمة ونهضتها! وأدخلا معظم المسلمين في حيرة أدت إلى زعزعة الثقة في الشعارات وأضعفت العقيدة وشوهت الإنتماء .
لا شك أنّ النهجين يشتملان على بعض الحقائق التي ينبغي استصحابها، وبهما كثير من التشوهات والانحرافات يجب التخلص منها، وهذا ما يحققه نهج الوسطية الذي يقدم الإسلام بديلاً حضارياً ونظاماً اجتماعياً أعدل؛ يخاطب ويلبي كل المطالب البشرية المشروعة. تصديقاً لقوله تعالى : ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [ ابراهيم : 24 – 25 ].
فمنهج الوسطية لا يقبل اجتهادات السابقين على إطلاقها بل يميز بين الأحكام القطعية والأحكام الظنية ويستصحب من اجتهادات السابقين ما تدعمه النصوص القطعية وما يتماشى مع طبيعة العصر، ولا يرفض كل ما أتى من الآخر وإنما يأخذ النافع ويؤقلمه مع هويتنا وأصالتنا على أساس :”الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها” وهذا ما سنتاوله في مقالات لاحقة إن شاء الله.