“صولة بني عثمان في ملاحم الثورة المهدية”
مكي أبوقرجة (1)
من الأهمية بمكان أن يتصدى أبناء السودان لتوثيق تاريخ أسلافهم، فالتاريخ مرآة الماضي، وعبرة الحاضر، واستشراف المستقبل، والروايات الشفهية التي يرويها السلف عن الخلف متصلة السند من الأحفاد عن الآباء والأمهات وصولا للجدود والجدات الذين شاركوا في الأحداث والوقائع؛ عندي أصدق من الكتب التي سجل فيها المؤرخون – أو بعضهم على وجه الدقة- روايات مختلقة أو قصص مشوهة أو انطباعات متأثرة بضغط الواقع وتأثير البيئة؛ وكثير منها اعتمد على مصادر الخصوم، فلا يتوقع منها أن تنصف سلفنا الذين تصدوا لهم ووقفوا ضد مشروعهم الاستعماري.
لقد اطلعت على كتاب الراحل المقيم مكي أبوقرجة قراءة أولية؛ فاستمتعت بسلاسة الأسلوب، وجمال السرد، وعمق التحليل، وعذوبة الوصف، وموضوعية التناول، والربط العلمي بين الأحداث! لقد شدني الكتاب حقا وأسرني أسلوبه الأدبي المبدع، ولم ألتق بمؤلفه إلا مرتين لقاء عابرا لا يسمح لي بادعاء معرفته معرفة لصيقة، غير أني عرفته من خلال هذا الكتاب الذي سجل فيه عصارة أفكاره باعتباره آخر إصداراته على ما أظن؛ أسأل الله له الرحمة والمغفرة والاستقرار في الفردوس الأعلى.
أسجل هنا بعض الرؤى من خلال قراءتي الأولية لكتاب مكي “أبوقرجة” “صولة بني عثمان في ملاحم الثورة المهدية”:
أولا: الكاتب يعتز بهويته ويفتخر بأسلافه، وهو أمر نادر في كثير من النخب الذين نالوا تعليما مدنيا فصل بينهم وبين تراثهم وتاريخهم وهويتهم؛ فنظروا لماضيهم باحتقار، واستمرأوا جلد الذات حتى صاروا بلا هوية؛ لاطعم لهم ولا رائحة ولا جذور؛ كالمنبت لا أرضا قطعوا ولا ماء أبقوا!!!
أما الكاتب فيفتخر بماضيه، ويقدر عطاء أسلافه، ويعتز بأصله، ويعيش عصره في نفس الوقت؛ يقول في إهدائه: “إلى أرواح أجدادي الغر السوابق الذين لم يفلتوا سانحة التاريخ فاقتحموا أبوابه ظافرين، وإلى روح والدي التي مازالت تطوف حولنا فتمنحنا العزم والاقدام، وإلى روح والدتي التي لولاها لما اغتنت الروح واتقد الفؤاد”!
لقد غرست فيه والدته معاني الاعتزاز بالأصل، فعاش شامخا حتى الرحيل! يقول: “فليغفر لي القارئ إفراطي في محبتهم- وهم جديرون بما هو أكثر – فلقد نشأت عليها منذ الفطام. وقد ظلت أرواحهم تلازمني منذ ذلك الزمن المبكر. فحين كنت طفلا في أوائل سِنِيّ عمري؛ كنت نحيلا أعاف الطعام. فتحاول أمي أن تطعمني بلا جدوى. حتى تأخذ في إعداد اللقمة وتضعها في فمي وتقول” هذا سيف جدك” ثم تتلوها بأخرى وتقول” هذا فرس جدك” ثم درعه فخوذته وحربته، حتى تلقمني كل آلته الحربية وأنا أزدرد الطعام ببسالة ولا أقاوم.
ثم نشأت على حكاياتها المدهشة عن هؤلاء الرجال. أستمع إليها مساء كل يوم بشغف وانفعال دون كلل أو ملل. تظل تروي وتروي ليتدفق هذا التاريخ حارا في شراييني حاضرا في حياتي” وقد عبر عن حرارة هذا الاعتزاز عندما ذهب لاستخراج الجنسية في مدينة كوستي؛ وعامله الضابط المسئول بخشونة وفتور؛ وناوله الاستمارة ليملأ بياناته فوجد سؤالا في الاستمارة: “أين كان يقيم أسلافك من جهة الأب”؟ فأجاب: ” كانوا يقيمون على صهوات الجياد يحررون البلاد شبرا شبرا” يقول:” فجن جنونه وأراد أن يخوض حربا ما إليها سبيل. ولكنه تراجع وكظم غيظه واكتفى بأن رفض أن يعتمد تلك العبارة وطالب بتغييرها، فرفضت وأدرت ظهري خارجا من مكتبه. كنت صادقا فيما زعمت وكنت ممتلئا فخرا بأولئك ” الجنرالات العظام الذين حفروا عميقا في تاريخ الوطن. كما كان هو غارقا في أوهامه بالبطولة في كسوته الكئيبة” هذا الموقف يبين لنا بوضوح عمق الفجوة بين تاريخنا بعظمائه، وبين الإدارة التي كونها المستعمر وظلت ملازمة للوطن حتى يومنا هذا! فاتسعت الفجوة بين ما تحمله جيناتنا من قيم ومعاني خلدها سلفنا بدمائهم في وجداننا؛ وبين التقليد الأعمى للموروث الاستعماري الذي جاء حربا على هويتنا؛ وكانت النتيجة لم نحافظ على إرث سلفنا ولم نلحق بركب الحضارة الوافدة؛ فصرنا كالغراب ضل مشيا وما بلغ القديم ولا الجديد!
الكاتب يلفت نظرنا بكتابه هذا أن عزنا في داخلنا، ونهضتنا تكمن في الاعتزاز بهويتنا، ووفائنا لعطاء سلفنا؛ وأن نبدأ من حيث انتهوا، يقول عن تاريخنا: “… وهو تاريخ طويل عميق وبلا ضفاف. يعود إلى نشأة الخليقة الأولى. لم نمسك بتلابيبه بعد. عَصِيٌّ كالمُهْر الشَّمُوس. ينازعنا فيه ذوو غرض. نفثوا علينا ريادتنا في الحضارة الإنسانية. يرومون انتزاعها والأيام حبلى. فالعلم في تسارعه المذهل هذا خليق بأن يكشف المستور ويضع الحصان أمام العربة” ويؤكد أن ” تاريخنا المعاصر شابته روح الانتقام، وثارات غردون، وأحقاد المؤرخين الغربيين، وتصفية الحسابات..” ويشير إلى كتابات الأسرى الأوروبيين في الدولة المهدية أمثال سلاطين، وأُورْهُولْدَر، والمصري إبراهيم فوزي؛ وهولت، وونجت، وثيوبولد؛ ومن لف لفهم من المحْدَثين! وعاب على السودانيين الذين لم يمعنوا النظر في كتابات المؤرخين السودانيين أمثال: محمد عبد الرحيم، وإسماعيل عبد القادر الكردفاني، وعلي المهدي، وبابكر بدري؛ الذين وصفهم بأنهم كانوا أقرب إلى الحقائق لمشاركتهم في الأحداث؛ وذكر أن الثقات قد محصوا أعمالهم فامتدحوا سعيهم ووجدوهم محقين مقتدرين أولي صدق ونصفه.
كأنهم درسوا مناهج البحث في أرقى الجامعات، واستخدموا نفس الوسائل السائدة الآن في هذا المجال في مؤلفاتهم عن تاريخ المهدية! ليتنا عدنا إليهم وإلى الوثائق المتراكمة التي علاها الغبار …فعكفنا عليها وأشبعناها بحثا وتنقيبا فتوسعت مداركنا لتأكيد هويتنا التي تحتدم حولها المعارك. ولحسم الفجاجة الفكرية واللجاجة السياسية الناجمتين عن ضعف معرفتنا بتاريخنا وبثقافتنا الوطنية. ويشير إلى مقولة محمد المهدي المجذوب رحمه الله حين أعلن:” أن سبب الفوضى في السودان هو جهل الناس بالتاريخ “وأختم هذه النقطة بما قاله المؤلف: “فالضرورة تقتضينا أن نعيد النظر بدقة وروية فيما كتب الباحثون والمؤرخون الغربيون بمختلف دوافعهم حتى ننتزع منه الحقائق الخالية من الكيد والغرض، ونؤسس لرؤية جديدة يستقيم بها تاريخنا. وبذلك نكون قد أعدنا كتابته بمساهماتنا المستمرة وبتجديد نظرتنا بالبحث الوافي العميق”
ونواصل“`