تسمّرت أعين الجميع أمام شاشات الموبايل، الغصة تطعن في الحلوق كنصل سكين حاد، الأسى يعتصر الأفئدة؛ ومقطع فيديو مؤثر للفنان الراكز أبو عركي البخيت يجوب الأسافير وهو يحمل الوطن هماً لحظة خروجه من غرفة العمليات قبل حوالي أكثر من عام وجذوة ثورة ديسمبر المجيدة مشتعلة في النفوس والمواكب والطرقات ، ليردد وهو تحت تأثير التخدير كلمات أغنية باذخة الوعي وكاملة النضال لم تكن قد عانقت مسامع الناس بعد.!
عندما هدرت حناجر الرفض لتسد سماء الخرطوم كان عركي (في الموعد) ولم يتخلف عن الركب، فالآلاف (خرجت) للشوارع تهتف (سلمية سلمية ضد الحرامية) بينما (خرج) عركي في (ذات التوقيت) من غرفة العمليات بعد إجراء عملية أربطة في الكتف متجاوزاً آلامه الخاصة ومتحدياً (البنج الما فك) بكل (الوعي الوطني) الذي يمكن أن يستحضره شخص (كامل اليقظة والتركيز) وهو يردد : عندك القرار يا ترفعها في السماء يا تغطسها .. والبلد الجميلة حرام نسيبها للطاغية البهينا ويدنسها .. وطالما نحنا بنحبها بي عيونا وبي كيانا بنحرسها !
كان المشهد يومها فريداً استثنائياً لا يُصدَق؛ وكانت رسالتنا التي قلناها آنذاك : تباً للمتخاذلين (المُبنجِّين) الذين يعيشون في (غيبوبة تامة) وهم في كامل (عافيتهم الجسدية)، ومددنا أيادي الشكر النبيل لعركي (الواعي دوماً)، فرغم (تمدد الأمصال)، و(زيادة جرعات التخدير)، ظل بقامة التحدي وحجم الرهان؛ فهو بلا شك حنجرة تمثل الهم العام وصوت الغبش الكادحين وآهات الغلابة المقهورين .. و(عقل باطن) مشغول بقضايا البلد ونضال الناس الموجوعين .
الآن دعواتكم بالشفاء العاجل للفنان الكبير أبو عركي البخيت .. نعم، نتيجة فحص فيروس كورونا جاءت للأسف الشديد إيجابية له ولأبنه يزن شفاهما المولى سبحانه وتعالى بينما لم تظهر بقية نتائج الفحوصات لأفراد الأسرة بعد مخالطتهم لابنتهم الدكتوره سماهر عركي التي لبت بتفانٍ كاملٍ كغيرها من أفراد الجيش الأبيض نداء الواجب فأصابتها الكورونا نتيجة مخالطة حالة لم تكن مكتشفة حينها بمستشفى المعلم .
عركي الآن موجود بالمنزل قيد الحجر .. لم تظهر عليه بحمد الله أعراض المرض؛ ونتمنى أن تمضي الأيام سريعاً ويغادر الفيروس جسده دون أن ينهكه أو ينال من صحته؛ فالرجل بلغ الثانية والسبعين من العمر قضى ثلاث أرباعها في القلق والتوتر والشد والجذب منشغلاً بقضايا الناس والهم العام، ومواقفه إبان العهد البائد وتضحياته لا تحتاج لشرح وتفصيل وإعادة تذكير ..!
قبل بضعة أيام كنت أتحدث معه عبر الهاتف لفترة طويلة .. تناقشنا في قضايا عديدة .. أسمعني نصاً شعرياً كتبه عن جائحة كورونا وصاغ لحنه؛ وكان العمل مكتملاً وجاهزاً فقط ينتظر شفاء ابنته سماهر لتقوم بتسجيله؛ ولم يكن يدري أن الفيروس اللعين يتربص به؛ وعندما شعر بتمدد الجائحة وأننا في حاجة لتكثيف الدعاء كان عركي كعادته دوماً قريباً من الناس وواعياً لحجم الإبتلاء وهو يبتهل مردداً : نبهتنا ورجعنا ليك يا ربنا .. ألطف بنا .. ادفع عننا هذا البلاء ولا تحاسبنا بما فعل السفهاء رحمتك وسعت كل شئ فارحمنا رحمتك وسعت كل شيء فأنجدنا
كل ما يحتاجه أبو عركي الآن دعوات الملايين من محبيه وعشاق فنه؛ ونسأل المولى سبحانه وتعالى أن يسبغ عليه ثوب الصحة ويمتعه بكامل العافية؛ فأستاذنا وصديقنا الحبيب عركي ظل على مر السنوات يجسد الأداء الغنائي بكل تفاصيله الإبداعية ، والحالة الغنائية برسالتها الواعية وملامحها الجمالية ، كيف لا؛ وصوته المُترع بالمسؤولية يعكس فرح الأعوام الخضراء وحزن يباس السنين .. حنجرته مسكونة بلوعة الشوق؛ وحكاوي العشاق؛ ونبض الشارع؛ وهموم الناس؛ وقصص الشجن؛ وتداعيات البهجة؛ ودفق الحنين؛ وميلاد الأهازيج ..حنجرة تحمل على ضفافها (جمال غُنوتنا، وريحة ترابنا، وهدير مواكبنا، ودعاش زرعنا، وهتاف شوارعنا، وزغرودة عديلنا، وجرتق حرفنا، وسنابل جرِفنا)..!!