أصبح في حكم المؤكد أن وزارة المالية قامت بتطبيق ما وعدت به من رفع مرتبات العاملين في الدولة بشكل غير مسبوق في تاريخ السودان .
وكالعادة ارتفعت أصوات البعض بأن ذلك سيقود إلى رفع معدلات التضخم بشكل غير مسبوق أيضاً. والمواطن أصبح تائهاً بين نظريات الاقتصاديين.
شخصيا وبخلفيتي الاقتصادية المتواضعة أقف مع الفريق الذي يقول إن زيادة المرتبات لن ترفع التضخم بتلك النسب التي يتخوف منها بعضهم.
أول الأسباب أن التضخم أصلاً موجود، وبنسبه الكبيرة إذا تم تطبيق الزبادة، أو لم تطبق، وبمعنى آخر عدم زيادة المرتبات لن توقف ارتفاع نسبة التضخم، وعلى أهل الاقتصاد البحث عن العوامل الأخرى التي ترفع التضخم، وأول عامل هو زيادة الإنتاج المحلي من السلع والخدمات، وتحسين المناخ للصادر السوداني للمساعدة في اإعاش قيمة الجنيه السوداني ..
هذه هي الآلية الوحيدة التي توقف التدهور في قيمة الجنيه وبالتالي كبح جماح التضخم.
والكل يتساءل: من أين لوزير المالية كل هذه الأموال الطائلة التي تمكنه من الإيفاء بهذه الزيادة القياسية في المرتبات.
في آخر مقابلة تلفزيونية قبل ثلاثة أيام، قال وزير المالية إن زيادة المرتبات سيتم تغطيتها من الأموال والممتلكات المستردة من لجنة تفكيك النظام السابق، وقال إن اللجنة ستوفر ما قيمته 158 مليار جنيه، في حين أن المرتبات بعد زيادتها تكلف خزينة الدولة 128 مليار جنيه.
وهذا تصريح مدهش من وزير المالية ومثير للاستغراب. وللأسف كأنه يلعب بعقولنا وعواطفنا الجياشة نحو استرداد هذه المبالغ المهولة من عصابة الإنقاذ، وإعادة توزيعها على الشعب السوداني.
الوزير نفسه يعلم قبل غيره أن معظم هذه الممتلكات هي اراضٍ وقصور وفلل، وهي في غالبيتها أصول ثابتة، وليست مبالغ سائلة، وقطعاً تحتاج إلى وقت طويل لتحويلها إلى مبالغ نقدية سائلة، وربما يستدعي الأمر إجراءات محاكم، واستئنافات قبل أن يصدر الحكم النهائي.
الذي اود قوله إن الاعتماد على الممتلكات المستردة بواسطة لجنة تفكيك النظام السابق لتغطية الزيادة في المرتبات هي قفزة في المجهول، وارتداداتها غير مضمونة العواقب.
في تقديري الخاص أن وزير المالية يعلم تمام العلم من أين سيأتي بهذا الفرق الضخم، ولسبب لا أعلمه لا يود البوح او الحديث عنه. والذي لم يقله وزير الماليه سأقوله لكم حتى تتأكدوا أن الامر ليس زيادة في المرتبات، بل هو إعادة للتوزيع مرة أخرى، ولأنه إعادة توزيع لم يتخوف الوزير من التضخم، بمعنى أن هذه الأموال أصلاً كانت موجودة داخل الهيكل الراتبي للدولة، وحدث لها إعادة توزيع فقط لاغير.
كيف ذلك؟! تعالوا نحسبها معاً .. في أيام الحكم المباد، وفي 18 ولاية احسبوا معي، كم كان عدد الوزراء والمستشارين والولاة ونواب الولاة وأعضاء المجلس التشريعي وعدد المعتمدين في كل ولاية !!
احسبوا معي عدد الوزراء الاتحاديين ونوابهم ووزراء الدولة والمستشارين والجيش الجرار من الوظائف الوهمية، وأعضاء المجلس التشريعي القومي ورؤساء لجانها.
باختصار شديد عدة الآف من الوظائف الدستورية أصحاب الامتيازات الخرافية.. كل هؤلاء الذين أحصيتهم وغيرهم من الذين لم تسعفني الذاكرة لإحصائهم . أين ذهبت مرتباتهم بعد ذهاب حكومتهم البائسة؟ أين ذهبت هذه المليارات التي كانت تصرف عليهم؟
أعتقد الإجابة واضحة ولا تحتاج إلى عناء كثير؛ لذلك قلت إن الأمر ليس زيادة في الهيكل الكلي للمرتبات، ولا يعدو ان يكون إعادة توزيع لهذه الأموال .. ولكن لماذا لم يصرح بذلك وزير المالية أو طاقمه الحكوم؟ حقيقة لست أدري ولا أملك اجابة لذلك، وإن كنت أشك في أن الأمر ربما مرتبط بدعوة وزير المالية لرفع الدعم عن المحروقات.
نقطة أخيرة اتفق فيها مع وزير المالية ان هذه الزيادة الكبيرة في المرتبات أو وحتى نكون أكثر دقة إعادة التوزيع سيؤدي الى تحريك عجلة الاقتصاد الكلي .. ببساطة لأن الأموال كانت مكدسة فقط في أيدي قلة قليلة .. الآن أصبح هذا المال متداولً بين فئة واسعة من قطاعات الشعب، وهذا وبدون أدني شك سيحرك عجلة الاقتصاد بصورة أفقية بين الجميع من الموظف البسيط لصاحب البقالة البسيطة .. للعامل …. للمزارع … لسائق الركشة وهكذا.
لذلك ذكرت في البداية أن نسبة التضخم حتى لو ارتفعت لن ترتفع بصورة مخيفة ومزعجة.
حمى الله السودان من الكورونا ومن التضخم.