يحيِّرني كثيراً أمر هؤلاء الذين ما أن يسمعوا بقرار لحمدوك أو أكرم، أو إجراء لأيٍّ من مؤسَّسات الحكومة الانتقاليَّة، حتَّى «يطفِّروا» من فوق الأسوار، شاهرين السَّكاكين المثلومة، والسِّيوف المكسَّورة! سبب حيرتي ليس عدم معرفتي دوافعهم، فأنا عليم بأن غاية مراد الثَّورة المضادَّة أن تعود بنا القهقرى! لكن ما يحيِّرني، حقيقة، هو إصرارهم على اتِّباع نفس الأسـاليب السَّـاذجة، المرَّة تلو المرَّة، دونما أدنى معلومة، أو أبسط معرفة!
خذ عندك، مثلاً، ردَّ فعلهم إزاء طلب حمدوك مساعدة الأمم المتَّحدة لبلادنا، تحت «الفصل السَّادس»، في دعم تحقيق السَّلام. فلو أنهم انتقدوا انفراده بالطلب دون مجلس الوزراء، لربَّما اكتسى نقدهم بعض الوجاهة. لكن أن يسدِّدوا هجومهم إلى محتوى الطلب نفسه، فهنا مربط الفرس، إذ المعلوم أن للسُّودان حقوقاً على المنظَّمة الدَّوليَّة، كعضو فيها، علماً بأنها تُعتبر، منذ إنشائها أواسط أربعينات القرن الماضي، وحتَّى إشعار آخر، أكبر معاول التَّعاون الدَّولي المعتمدة دوليَّاً، في ما يتَّصل بتجاوز الحروب والنِّزاعات، وتبنِّي الأمن والسَّلام، تأسيساً على ميثاق يمثِّل أهم آليَّاتها، ويعطي مجلس الأمن الدَّولي صلاحيَّة تحديد ما إن كان ثمَّة نزاع يعرِّض السِّلم والأمن الَّدوليَّين للخطر، ومن ثمَّ معالجة هذا النِّزاع بأحد فصلين متباينَي الوسائل، «السَّابع» للقوَّة، والإكراه، والعقوبات، من جهة، و«السَّادس» للدِّبلوماسيَّة، والتَّفاوض، والوساطة، والتَّوفيق، والتَّحكيم، والتَّسوية القضائيَّة، وغيرها من الوسائل السِّياسيَّة السِّلميَّة، من جهة أخرى. فما الغضاضة، إذن، في أن يطلب السُّودان، السَّاعي لتحقيق السَّلام، الاستعانة بوسائل «الفصل السَّادس»، رغم أن النَّجاح ليس، في كلِّ الأحوال، قرين آليَّة التَّدخُّل الدَّولي، ضربة لازب، بصرف النَّظر عن استخدامها تحت «الفصل السَّادس» أم «الفصل السَّابع»، كما وأن الأخير نفسه، بكلِّ عناصر القوَّة فيه، ليس ضمانة كافية لهذا النَّجاح، بدليل الإخفاق الذي ظلَّ يلازم بعثة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في إقليم دارفور «يوناميد ـ UNAMID» منذ نشرها هناك، تحت «الفصل السَّابع»، في أواخر العام 2007م؟!
الإجابة واضحة؛ لكن ما يهمُّنا الآن، بشكل مباشر، هو ردُّ فعل عناصر الثَّورة المضادَّة المخالف للفهم المستقيم لمشروعيَّة طلب حمدوك، حيث انطلقوا يقيمون الدُّنيا ولا يقعدونها، ناعتين هذا الطلب، زوراً وبهتاناً، بالتَّفريط في «السَّيادة الوطنيَّة»! ورغم أن من شأن الحسَّ السَّليم اعتبار ذلك مكابرة مكشوفة، بالنَّظر إلى «صَبْر» نفس هذه العناصر على تدخل «يوناميد»، تحت «الفصل السَّابع»، الذي هو فصل التَّدخُّل المباشر في «السَّيادة»، طوال السَّنوات منذ 2007م، وإلى يوم النَّاس هذا، بل وإلى أكتوبر القادم، مثلما تكفي محض البداهة لاعتبار ردِّ الفعل هذا جهالة فاضحة بدلالات «الفصل السَّادس»، بل وبمفهوم «السَّيادة» نفسه، فإننا، مع ذلك، نرى ضرورة الاستفاضة شيئاً في تفنيد هذه الجَّهالة، وذلك من باب الحدب على الوعي العام غير المتخصِّص ألا يغمُض، بالنِّسبة له، مفهوم «السَّيادة»، في إطار القانون الدَّولي الحديث، كما ولا تغمُض، بالنِّسبة له، مكانة «الأمم المتَّحدة» إزاء العلاقات الدَّوليَّة المعاصرة.
في هذا الاتِّجاه، لا بد أن نستصحب، ابتداءً، كيف أفضت ممارسة الدَّولة لوظائف خارجيَّة، وبخاصَّة منذ القرن السَّابع عشر، إلى نشأة وتطوُّر القانون الدَّولى المعاصر، باعتباره جماع القواعد التى تحكم العلاقات الدَّوليَّة، وتستمدُّ محدِّداتها، في المقام الأوَّل، من مستوى التَّطوُّر التَّاريخي لظاهرة الدَّولة نفسها من عصر لآخر، ثمَّ من طبيعة الاقتصاد السِّياسي للعلاقات الدَّوليَّة في مختلف مراحلها. أهمُّ تلك المحدِّدات كرَّستها «معاهدة وستفاليا 1648م» في مفهوم «سيادة الدَّولة الوطنيَّة» على مجالها الدَّاخلي. فلئن كانت الدَّولة تمثِّل، فى أصلها، التَّمظهر السِّياسي لسلطة الطبقة السَّائدة اقتصاديَّاً، علاوة على كونها المنظَّمة الوحيدة للعنف المشروع، فإن تلك المعاهدة أرست، لنحو من ثلاثة قرون، قاعدة احتكار الدَّولة الحديثة للسُّلطة المطلقة بشأن تنظيم فيالق مسلحة لفرض النِّظام والطاعة على مواطنيها، داخليَّاً، وحماية وحدة واستقلال إقليمها، خارجيَّاً. وبالتالي فإن الدَّولة الحديثة ذات «السَّيادة» المطلقة اعتُبرت، تقليديَّاً، لدى هوجو جروشيوس وغيره من الآباء المؤسِّسين للقانون الدَّولي الكلاسيكي، بمثابة الشَّخصيَّة الأساسيَّة subject للقانون الدَّولي، مثلما اعتُبرت الاتِّفاقيَّات والمعاهدات التي تبرمها مع الدُّول الأخرى بمثابة المصدر الرَّئيس للقاعدة القانونيَّة الدَّوليَّة.
وفى إطار القانون الدَّولى الحديث، أيضاً، وباستثناء تدابير القوَّة والإكراه الواردة ضمن «الفصل السَّابع» من ميثاق الأمم المتَّحدة، تمنع المادَّة/27 تدخُّل المنظمة الدَّوليَّة في الشُّؤون الدَّاخليَّة لأيَّة دولة، كما تمنع المادَّة/24 الدُّول الأعضاء من استخدام، أو التَّهديد باستخدام القوَّة في علاقاتها الدَّوليَّة؛ وأكد على ذلك، أيضاً، «إعلان مبادئ القانون الدَّولى للعلاقات الودِّيَّة والتَّعاون بين الدُّول»، والذي اعتمدته الجَّمعيَّة العامَّة في 24 أكتوبر 1970م. ومن ثمَّ فليس هنالك ما يحول دون تقديم المساعدة في دعم السَّلام لإحدى الدُّول، لأسباب إنسانيَّة، سواء بطلب منها إلى الأمم المتَّحدة تحت «الفصل السَّادس»، أو إلى دولة أخرى، أو مجموعة دول، سواءً بطلب مماثل، أو بناء على معاهدة ثنائيَّة أو جماعيَّة.
في السِّياق تقدِّم سيراليون، على سبيل المثال، نموذجاً ساطعاً لجدوى مثل هذه المساعدات، من الأمم المتَّحدة، أو من دول أخرى، كبريطانيا في إطار الكومونولث، نحو إنهاء الحرب الأهليَّة الضَّارية، وتصفية مترتِّباتها، وتدشين مرحلة جديدة من السَّلام والتَّنمية. غير أننا يجب ألا نغفل أن سيراليون نفسها هي التي حشدت، ذاتيَّاً، عناصر الدُّخول في هذه المرحلة، قبل أن تطلب المساعدة. فحجر الزَّاوية في بناء مثل هذه المرحلة هو توفُّر الاستعداد الذَّاتي، والإرادة السِّياسيَّة، لدى الدَّولة المعنيَّة، أوَّلاً وأخيراً، أمَّا بدون ذلك فلن تكون ثمَّة جدوى من أيَّة مساعدة تتلقَّاها، لا من الأمم المتَّحدة، ولا من دولة أو مجموعة دول أخرى.
وإذن، فإن طلب المساعدة من الأمم المتَّحدة تحت «الفصل السَّادس»، أو طلب مساعدة أيَّة دولة، أو مجموعة دول، بموجب معاهدة ما، لا يتقاطع، البتَّة، مع مفهوم «السَّيادة»، بل إنه مِمَّا يندرج ضمن تطبيقات القواعد القانونيَّة الدَّوليَّة المُعزِّزة لـ «السَّيادة» بمفهومها التَّقليدي المطلق، إذ من المعلوم أن ثمَّة حالات تخِفِّف من ذلك الاطلاق، حتى في إطار جمود «وستفاليا» المفاهيمي القديم، ومن بينها «التَّنازل» عن «السَّيادة» بطلب إلى الأمم المتَّحدة، تحت «الفصل السَّادس»، أو بموجب أحكام معاهدة دوليَّة ما، ثنائيَّة كانت أم جماعيَّة، فيصبح من غير الجَّائز، قانوناً، سحب هذا «التَّنازل» بإرادة منفردة، علماً بأن ممارسة «التَّنازل» نفسها هي، ابتداءً، عمل من أعمال «السَّيادة». وتطبيقاً لهذه القاعدة «لا يجوز الادِّعاء بعدم مشروعيَّة التَّدخُّل الأجنبي إذا استند إلى نصِّ اتِّفاق، لأن الأمر، فى هذه الحالة، لا يكون من الاختصاص الدَّاخلي للدَّولة المعيَّنة، بل يُعدُّ أمراً خاضعاً للقانون الدَّولي .. ومن هذا المنطلق يكتسب التَّدخُّل الدَّولي لأسباب إنسانيَّة مشروعيَّته، حتَّى في الإطار التَّقليدي لمفهوم «السَّيادة»، على أساس أن احترام حقوق الانسان أصبح من الالتزامات الدَّوليَّة الرَّاسخة بموجب العهود والمواثيق الدَّوليَّة والإقليميَّة والقانون الدَّولي العُرفي، وبالتَّالي تكتسب هذه الالتزامات صفة القواعد الآمرة Jus Cogens التي لا يجوز التَّنصُّل من مراعاتها» (أنظر: فتح الرحمن عبد الله الشيخ؛ مشروعيَّة العقوبات الدَّوليَّة والتَّدخُّل الدَّولي، ط 1، مركز الدِّراسات السُّودانيَّة، القاهرة 1998م).
لقد تطوَّرت علاقات السِّياسة الدَّاخليَّة، خلال العقود الماضية، خصوصاً بعد انحسار الحرب الباردة، إلى آفاق أكثر ديموقراطيَّة وأنسنة، مِمَّا انعكس في سياق آخر لتطوُّر العلاقات الدَّوليَّة والقانون الدَّولي، وفتح هذه العلاقات والقواعد باتجاه رعاية مصالح الأفراد والشُّعوب، لا الدُّول وحدها، والاهتمام بتطبيقات القانون الدَّولي الإنساني، وحقوق الإنسان، والدِّيموقراطيَّة، والحكم الرَّاشد، ومحاربة الفساد، وإشاعة الشَّفافيَّة، وما إلى ذلك. هكذا أصبحت «السِّياسات الدُّنيا» في رأس أولويَّات المجتمع الدَّولى، شاملة قضايا الفقر، والتَّنمية، والبيئة، والإيدز، والهجرة، واللاجئين، وغسيل الأموال، وتجارة المخدِّرات، والإتجار بالبشر، وحقوق الإنسان، والتحوُّل الديموقراطي، وحكم القانون، ومعايير الشَّفافيَّة، وتحظى بنفس أهميَّة «السِّياسات العُليا»، كقضايا الحرب، والإرهاب، والتَّسلح (ص. فانوس؛ الوحدة، 17 ديسمبر 2005م).
واستطراداً، فقد كان لا بُدَّ لهذه التحوُّلات أن تنسحب، تدريجياً، على المفهوم التَّقليدي، الذى سيطر لنحو من ثلاثة قرون، بشأن «السَّيادة الوطنيَّة» في علاقة الدَّولة بمواطنيها، فأضحت هذه العلاقة تكفُّ، الآن، عن أن تكون شأناً داخليَّاً، في ذات اللحظة التي يتسبَّب فيها سلوك هذه الدَّولة نحو هؤلاء المواطنين فى كوارث إنسانيَّة، خصوصاً إذا امتدَّت آثارها إلى دول أخرى. لذلك كان لا بُدَّ أن يتراجع مفهوم «السَّيادة» التَّقليدي لصالح التَّدخُّل الدَّولي لأسباب إنسانيَّة، كالانتهاكات الفظَّة لحقوق الإنسان، والجَّرائم ضدَّ الإنسانيَّة، مثلاً، في مجتمع دولي تشبَّع بعالميَّة مبادئ حقوق الإنسان، والدِّيموقراطيَّة بمعاييرها الدَّوليَّة، مِمَّا يرتِّب على الدَّولة التزامات ينبغي أن تراعيها تجاه مواطنيها، فإنْ أخفقت فى ذلك، تعيَّن على المجتمع الدَّولي أن يتدخَّل لإجبارها على مراعاتها.
الشَّاهد أنه، لئن كان القانون الدَّولي ما يزال، بل يجب، أن يقرُّ للدَّولة بـ «سيادتها»، خارجيَّاً، على إقليمها، بمعنى صونها لاستقلالها، وسلامة أراضيها، وحمايتها لوحدتها، فإن هذا المفهوم لم يعُد، داخليَّاً، هو نفسه مفهوم «وستفاليا» القديم، إذ لم تعُد الدَّولة تملك، كما فى السَّابق، حقَّ التَّصرُّف المطلق في مصائر، وحريَّات، وحقوق مواطنيها، بل انفتح المفهوم ليشمل، بالمقابل، «سيادة» هؤلاء على هذه القيم، بدعم ومؤازرة دوليَّة، رسميَّة ومدنيَّة، وباستخدام آليات الاعتماد المتبادل. هكذا أصبح من المتعيِّن على الدَّولة الحديثة، لكي تضمن حماية «سيادتها الوطنيَّة»، أن توازن بين حقوقها هي في صون استقلالها، ووحدتها، وسلامة أراضيها، وبين حقوق مواطنيها. وقد عبَّر د. بطرس بطرس غالي، السِّكرتير العام الأسبق للأمم المتحدة، عن ذلك بقوله إنه، برغم أن حجر الزَّاوية في القانون الدَّولي ما يزال هو «الدَّولة» ذات «السَّيادة»، إلا أن زمان «السَّيادة» المطلقة قد ولى، مِمَّا يحتِّم على قادة الدُّول تفهُّم ذلك، والسَّعي لإيجاد التَّوازن المطلوب بين ضرورات الحكم الرَّاشد، ومتطلبات عالم يُعزِّز الاعتماد المتبادل. كما قال، أيضاً، في كلمته الافتتاحيَّة أمام المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان بفيينا عام 1993م: «إن المجتمع الدَّولى يوكل إلى (الدَّولة) مهمَّة حماية (الأفراد)، لكن يتوجَّب عليه أن يحل محلها إذا فشلت في هذا» (فتح الرحمن الشيخ؛ مشروعيَّة العقوبات الدَّوليَّة والتَّدخُّل الدَّولي).
مع ذلك ينبغي، في الختام، ألا تكون لدينا أيَّة أوهام حول احتمال أن تتيح اختلالات ميزان القَّوة الدَّولى الرَّاهن ثغرات تُستخدم عبرها دلالة مفهوم «السَّيادة» المتطوِّر هذا لتحقيق أجندات خاصَّة بقوى الهيمنة الدَّوليَّة، فيدفعنا ذلك لمعارضة التَّطوُّر الذي لحق بالعلاقات الدَّوليَّة، وبالقانون الدَّولي، ومن ثمَّ بمفهوم «السَّيادة»! إن هذا ليس أقلَّ شبهاً، في الوقت الرَّاهن، من إلغاء ركوب الطَّائرات بسبب احتمالات سقوطها، أو الامتناع عن استخدام السَّيَّارات بالنظر لاحتمالات وقوع حوادث السَّير! ولذا نتَّفق مع د. صفوت فانوس، أستاذ العلوم السِّياسيَّة بجامعة الخرطوم، في مقالته المار ذكرها، حول أن «هذا لا يغيِّر من الواقع الدَّولي الرَّاهن الذي أصبح يتعامل مع قضايا حقوق الإنسان باعتبارها الهدف الأسمى الذي يجب أن تسعى الدُّول للارتقاء إليه، وإلا وجدت نفسها في عداء مع المجتمع الدَّولي، حيث لن تشفع لها مقولة حقها فى السَّيادة الوطنيَّة».
***