لم أتعود أن أرد على أي مقال كتبه زميل أو قاله كاتب أيا كان وذلك لقناعتي بأن كل إنسان ينطلق من زواياه الخاصة ورؤيته الفردية منطلقاً من حرية الرأي وحق الأداء العلني، ولكنني قرأت مقالاً للأستاذ حسين خوجلي قبل يومين أثار في نفسي حفيظة الكتابة لأنه موضوع مهم ويشغل بال الكثيرين الآن وهو موضوع استرداد القصور والممتلكات من أركان نظام الإنقاذ التي أعادتها لجنة تفكيك النظام. حيث حكى حسين عن مصادرة الإسلاميين لممتلكات آل الميرغني وآل المهدي في بدايات عهد الإنقاذ. وقال إنها قد أعيدت في الآخر لأصحابها بعد المصالحة واضطرت الدولة لإعادة ترميمها وصيانتها قبل أن تعيدها إليهم مما كلف خزينة الدولة الكثير. وبالتالي فهو يرى أن التاريخ الآن سيعيد نفسه وستضطر حكومة الثورة أن تعيد كل هذه الممتلكات لأصحابها بعد أن يتكفل بصيانتها دافع الضرائب المسكين مما يستوجب أن تعي حكومة حمدوك الدرس ولا تقع في هذا المطب المكررتاريخياً. والمعنى في نهاية المطاف أن تتوقف حكومة الثورة عن هذه المصادرات وتعيد هذه الممتلكات لأهلها قبل فوات الأوان. هذا هو ملخص ما كتبه الأستاذ حسين وهو بالمناسبة يمثل رأي كثير من الإسلاميين الذي فقدوا ثرواتهم أو هم في طريقهم لفقدانها ما دام قطار تفكيك نظام الإنقاذ ماضياً في طريقه. وأنا أود أن أقول إن هذه المقارنة لا مكان لها من الحقيقة لا من قريب ولا من بعيد. حيث إن الفارق هو أن ممتلكات الختمية وممتلكات آل المهدي قد تملكها أصحابها بطبيعة الإرث الصوفي المتوارث في كل بلاد العالم الإسلامي منذ عهود بني أمية والعباسيين والفاطميين مروراً بفترة السلطنة العثمانية وعصر المماليك وإلى يومنا هذا. حيث يبنيها المريدون ويعمرها أتباع الطريقة وتلاميذ الشيوخ. وبعضها يأتي عن طريق التبرعات السخية للمساجد والتكايا والخلاوى. وحتى المأكل والمشرب فيها لا يقوم به الشيخ أو أهل بيته وإنما تتقاطر الهبات والصدقات والعطايا من أشخاص لا يعرفهم حتى الشيخ في كثير من الأحيان. وظل هذا الأمر متوارثاً عبر التاريخ في همشكوريب وفي زريبة الشيخ البرعي وفي دوائر الأنصار المنتشرة في كل ربوع السودان وفي بيوت الختمية منذ دخول السيد الحسن الأكبر. بل ونجده في تمبكتو القديمة بغرب إفريقيا وفي كل تخوم ولاية كانو بشمال نيجيريا وفي دار مالي وفي أريوا هاوس وفي فاس المغربية وطنجة وكل بلاد موريتانيا وإثيوبيا التي يتفوق فيها عدد المسلمين على عدد المسيحيين واللادينين أضعافاً وفي ماليزيا وإندونيسيا واليمن وحتى مصر التي تضيق أرضها وبيوتها إلا على على الشيوخ ومريدي الطرق الأحمدية والنقشبندية والبرهانية وغيرها. والصوفية دخلت السودان مع بواكير الهجرات العربية والإسلامية، حيث كان للمغرب العربي دور كبير في ذلك عندما جاء بها أحفاد سيدي أحمد التجاني ونشروها بكل ربوع السودان. وتآلف معها الناس غاية الإلفة حتى أن بعضهم ترك دياره وسكن في معية الشيخ. وترى هذا واضحاً إذا زرت منطقة الزريبة حيث الألوف من الصبايا والشباب وحتى الكهول يتحلقون في حلقات الذكر داخل مسيد أبونا الشيخ البرعي ثم من بعده حول الشيخ الفاتح وهم لا يعرفون منزلاً غير المسيد. فيأكلون ويشربون ويتعلمون ويصلون ويصومون ثم يتزوجون وبعدها يموتون في نفس المكان. ولذلك فهم يبلون النفس والنفيس لصالح المسيد. وظل هذا الأمر إلى يومنا هذا في تخوم العاصمة الخرطوم وبحري وأم درمان. فهل تجرؤ حكومة السودان إذا كانت بعثية أو شيوعية أو جمهورية أو إسلامية أو علمانية أن تنزع مسيد الصائم ديمة بأم درمان؟ أو مسيد البرعي بحي المجاهدين بالخرطوم؟ أو مسيد الشيخ موسى عبد الله حسين بأم بدة؟ أم مسيد السادة المكاشفية أو السادة العزمية بحي الزهور؟ أو مسيد السمانية في حي الهجرة؟ أو مسيدهم في أم مرحي؟ أو حتى مسيد الإسماعيلية في الأبيض؟ حاشا وألف كلا. ودوائر آل المهدي ودوائر الختمية تُعتبر من هذه الشاكلة، لذلك أعادتها الحكومة إليهم بعد أن صادرتها في بدايات عهد الإنقاذ وهي تعلم طبيعتها قبل أن تصادرها بدليل أن الأستاذ حسين قال في مقاله: (قلت لهم ناصحا: لقد دلت كل التجارب أن الخصومات السياسية نسبية وليست مطلقة، ومؤقتة وليست دائمة ولذلك فإني أرى أن تستخدموا هذا المنزل كمقر اداري، لأن استخدامه كمستشفى يفرض عليكم تعديلات جوهرية في المبنى بالمليارات التي يمكن بها أن تشيدوا صرحا طبيا جديداً). وأنا أقول: لهذا السبب الديني والطبيعة ذات الشبهة الصوفية لتلك الممتلكات أعادتها الإنقاذ للختمية والأنصار وليس لمجرد المصالحة رغم أنها كانت واحدة من أسباب ذلك الأمر. وجاء في المقال: (إن الحكومات لا تراهن على الجماهير لآخر الميس، فعاجلا أو آجلا سوف يتفق الفرقاء على اتفاق ما وسط دهشة الجميع، وسوف تعود الممتلكات لأصاحبها ويدفع الشعب المسكين فاتورة الصيانة والاجراءات والتعويضات أضعافاً مضاعفة). وأنا أقول إن هذا لن يحدث على الإطلاق مع هذه القصور والعقارات والأراضي التي صادرتها لجنة تفكيك التمكين والسبب بسيط جداً وهو أن هذا الممتلكات لم تكن إلا مسروقات نهبها ضعاف النفوس ممن اقتحموا الحركة الإسلامية وحزب المؤتمر الوطني في غفلة من الزمان ومارسوا ذلك السطو الذي هو أكبر وأخطر من النهب المسلح فاستولوا على ممتلكات البسطاء، أطيان الدولة، ونهبوا أراضي الغير عنوة واقتداراً، حتى الأوقاف التي حرم الشرع نزعها أو استغلالها لغير ما أوقفت له. وتسامق هؤلاء اللصوص في بناء هذه الأراضي المنهوبة على أحدث الطرز من مال الشعب المسكين دون رضاه أو استشارته أو حتى علمه. وأنا لا أتهم كل الإسلامين على الإطلاق ولا حتى كل منسوبي المؤتمر الوطني حيث إن من بينهم رجال ونساء من أطهر وأنبل أهل السودان، وظلوا ينتقدون مسلك هؤلاء الانتهازيين من زملائهم الذين يشاركونهم في النظام أو الحركة أو الحزب. بل إن بعضهم ظل طاهر اليد واللسان حتى بعد أن وصل إلى درجة الوزير أو المستشار أو القيادي. ولذلك خرج هذا الصنف من النظام في أوج سطوته غير نادمين على ذاك الخروج. ودليلي ما قرأه كل أهل السودان من ذلك النقد المرير لسياسات الإنقاذ إبان سطوتها. حتى أن بعضهم دعا عليها بالزوال ومنهم على سبيل المثال كما يعلم كل أهل السودان الدكتور مالك حسين، والكاروري، والجميعابي وغيرهم وغيرهم. والأستاذ حسين نفسه قد حفظ له التاريخ تلك التعرية والانتقاد الذي واجه به النظام وتحذيره له عشرات المرات حتى طالب عدد من أولئك اللصوص بإيقاف برامجه وإقصائه وإغلاق قنته الفضائية عندما شعروا بالخوف الحقيقي. وأنا لا أشك أنه بذلك قد أسهم مع غيره في إزكاء شرارة الثورة ضد النظام رغم اعتقاد البعض أنها كانت تمثيلية أراد بها النظام الإيحاء بحرية التعبير وانفتاح النظام على النقد والمعرضة. والذي يهمنا هنا أن كثيراً من الناس قد تسلقوا على أكتاف الإنقاذ والحركة الإسلامية بأجندتهم الخاصة فأثروا ثراءا فاحشاً أزكمت من نتانته الأنوف. وهؤلاء هم الذين بنوا القصور الفارهة، وفتحوا الحسابات الضخمة في بنوك سويسرا وماليزيا والإمارات ولندن، مستفيدين من قوانين المصارف العالمية التي تضرب سياجاً متيناً من السرية على حسابات العملاء مهما تكشف لها من لصوصيتهم أو مصادرهم المشبوهة. ولا تكشف ذلك لكائنٍ من كان. والقصور التي صادرتها لجنة تفكيك التمكين والتي أعلنها وجدي صالح عضو اللجنة بلغت في يوم واحد فقط 399 عقار منها 150 قطعة باسم إحدى قريبات الرئيس و127 قطعة باسم فريق شرطة ومليون و180 ألف سهم باسم شخص واحد. وكلها تم تحويلها بأسماء هؤلاء الأشخاص من المؤتمر الوطني الذي تم حله بقرار سلطات الثورة. وكما قال صديق يوسف ناصحا ومحذرا بأن أي اجراءات لا تتم وفق معايير العدالة والقضاء السوداني النزيه سوف تكون عاقبتها وخيمة على الاقتصاد السوداني والاستثمار الأجنبي والصديق. ولكن أين هي هذه العدالة عندما استولى هؤلاء وغيرهم على مال الشعب السوداني دون وجه حق؟ وأنا أسأل بكل براءة ما حجم ثروات أهل الرئيس عندما قامت الإنقاذ؟ لقد اعترف الجميع بأنهم (ناس غبش). وقالوا: إذا رأيتمونا نركب السيارات الفارهة ونسكن البيوت الفاخرة فاعرفوا أننا قد فسدنا. فما هي السيارات التي كانوا يركبونها في نهايات الإنقاذ؟ وما هي البيوت التي سكنوها في هذه الفترة؟ بل وما هي المليارات التي كدسوها في المصارف والبيوت وحتى تحت الأرض عندما آل النظام للسقوط؟ لقد أصبح حي كافوري بأكمله ضيعة لأهل الرئيس حتى سماه الناس (حوش بانقا). وأنا أشهد بنفسي أنني دخلت في أحد مقار إخوة الرئيس في الجزء المتاخم لمسجد النور لتلبية دعوة جاءتني في إحدى المناسبات ووالله العظيم ظننت أني في أحد قصور الحمراء بغرناطة أو دوائر الملوك في أشبيلية. وأقولها بكل صراحة إنني قد زرت خمسا وستين دولة حول العالم ودخلت قصور الرئاسة من أقصاها إلى أدناها في رومانيا وماليزيا ومصر وغيرها حتى البيت الأبيض في واشنطون. وأقسم بالله أن الذي رأيته في ذلك اليوم ينافس البيت الأبيض فخامةً وتشجيراً وتنميقاً بالثريات والرخام والأباجورات والطنافس التي لن يحلم بها أي سوداني من أهلنا الغبش إلى يوم القيامة. ولذلك فإنني أدعو الدكتور حمدوك ووزير السياحة ووزير المالية أن يفتحوا هذه القصور المصادرة للشعب السوداني لمجرد زيارتها لمدة ساعة واحدة فقط وبعدها يزورون منزل أسرة الرئيس البشير الذي عاش فيه هو وإخوته قبل الإنقاذ وهي قريب جداً من هذه القصور حيث يمكن المشي بينهما على الأقدام ليعرف الناس لماذا صادرتها لجنة التمكين. ويعرف كاتب المقال ما إذا كانت مثل هذه القصور يمكن أن تعاد لمن سماهم (أصحابها) في يوم من الأيام. إن التاريخ لا يرحم. والله يمهل ولا يهمل. ولذلك لا نحسب أنه سيأتي يوم تعاد فيه هذه القصور أو هذه الأراضي أو هذه الأطيان لمن نزعت منهم لأنهم ببساطة ليسو أهلها، ولم يبذلو جهداً في اقتنائها، وليس لهم أي حق تاريخي فيها، بل أكاد أجزم أن بعضهم لا يعرف حتى عددها أو مواقعها في المدينة بشكل جيد. واسألوا عبد الباسط حمزة وجمال الوالي وبقية العقد الفريد كم كانت ثرواتهم قبل الإنقاذ؟ واسألوا السيدة وداد كم كان رصيدها في المصارف أو حتى في صندوق توفير البوستة قبل أن يتوفى زوجها السابق إبراهيم شمس الدين؟ وكم هو رصيدها الآن؟ إن المرارات التي ذاقها شعب السودان ممن تسلقوا فوق رقاب البسطاء لن تنمحي إلى الأبد. ولو افترضنا جدلاً أنه جاء يوم وتسلمت مقاليد السلطة بالسودان أي مجموعة حزبية أو طائفية أو عسكرية أو غير ذلك وفكرت في أن تعيد هذه القصور والأطيان لهؤلاء اللصوص فثقوا أن هؤلاء الشباب الذين ثاروا على الطغيان في ديسمبر 1919م سوف يقتلعون جذورها من القاع لأنهم لم يثوروا ضد أفراد وإنما ثاروا ضد السلوك وضد تفسخ الأخلاق وموت الضمير. ولذلك لا يحلم أحد بأن ما حدث لإعادة الممتلكات للختمية أو الأنصار أو أتباع الطائفة الهندية سيحدث لهؤلاء اللصوص الذين لا هم ميرغنية ولا هم أنصار ولا هم طائفية وإنما هم من أشباه أذيال الماسونية التي ما حلمت يوماً بأن يكون لها منافسون أو أنصار بهذا الشكل العجيب.