يبقي الحديث عن كاريزما القلم الثوري عند المهدي منقوصاً إن لم تمتد أي دراسة بهذا الشأن لتشمل الإصلاحات الاقتصادية و الإجتماعية التي تصدت لها أفكاره المكتوبة لتخاطب أشواق التغيير التي إعتملت في صدور الجماهير .
لقد سبق الإمام المهدي حركات تغيير يسارية كثيرة في الحديث عن ملكية مصادر الثروة للأمة أو ما يمكن إدراجه بمعايير اليوم في سياق تمليك وسائل الإنتاج لمصلحة الطبقات المسحوقة بالمجتمع، وذلك من خلال هيمنة الدولة و مؤسساتها عليها -( بيت المال نموذجاً ) .. وتحدث المهدي أيضاً عن تأميم المؤسسات القائمة سعياً لإنهاء سيطرة الأفراد- او لنكن أكثر دقة فلنقل إنهاء تسلط الأرستوقراطية التي ارتبطت مصالحها بالاستعمار التركي المصري – علي وسائل الانتاج القائمة آنذاك .. وذلك علي نحو منشوره الذي يقول فيه :
” إن المقصد هو إقامة الدين و ازالة الضرر عن كافة المسلمين .. فيلزم ذلك أن يفرغ الاخوان جميع المواضع التي تنتج منها المصالح جميعا ولا يعرض لها احد من الانصار وذلك : جميع الدكاكين ، و الوكالات ، والقصيريات والعصاصير والطواحين والبنوك التي كانت بالبحر للإيجار . و لو كانت مسكونة فليخرج منها من هو ساكن فيها لما يترتب عليها من مصلحة عامة للمسلمين من ضعفائهم و مجاهديهم .. حيث أن كل من هو ساكن بتلك الجهات يمكن ان يتدارك له مسكناً فلا يؤخر مصلحة المسلمين وانه أيها الاحباب لما كانت المشارع ( مرافئ السفن ) بهذا الزمن بهذه الجهات هي كالفيء ونحن لا نريد بالإفياء إلا مصلحة المجاهدين والمساكين ، ولا نرضي لمسلم أن يكون همه الدنيا والجمع لها والمعلوم أن المشارع فيها أموال جسيمة وكل من استولي على مشرع جمع فيه مالاً كثيرا ولا يجهز فيه غزوة ولا سرية و إستضر بكنزه .. فلذلك إستصرب عندنا مع المشورة المسنونة ان نكتب الي كافة المحبين أن يرفعوا أيديهم عن المشارع . فلا نريد لمسلم بعد هذا أن يستخدم المشارع لنفسه ، فإذا كانت له مركب فلا سبيل عليه ، ومن انضم للجهاد معنا فله ضرورته والزائد عن الضرورة فانه علي العبد لا له ” .. ( ابوسليم : الاثار الكاملة للامام المهدي )..
و تحليلاً لما تقدم مما اختطه قلم المهدي .. يقول المفكر السوداني الراحل الاستاذ محمد علي جادين :
” ورغم مشاغل الثورة الكثيرة ، فإن قيادتها لم تغفل عن مواكبة المتغيرات الجديدة الناتجة عن ظروف الثورة وانتصارها وسيادة الجماهير علي نفسها ومقدرات وطنها ، فاستجابت لها وبالإصلاحات اللازمة وخصص الامام المهدي حيزاً كبيراً من منشوراته لإعلان التشريعات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة المستندة علي عقيدته الاسلامية الصحيحة ، فكانت قرارته بتأميم المشارع والحدائق والمباني وكل المواضع ذات النفع العام وضمها لبيت المال ” … ( محمد علي جادين و عبدالعزيز الصاوي : الثورة المهدية ، مشروع رؤية جديدة).
ولما كان اقتصاد سودان القرن التاسع العشر يقوم علي الزراعة بعد الرعي كإحدى وسائل الإنتاج الأساسية .. فقد انبري القلم المهدوي للتأسيس لرؤية جديدة قائمة علي أساس ” الارض لمن يفلحها ” وهي رؤية علي الرغم من إقرارها حق الملكية الفردية الا انها تقوم علي إتاحة الفائض عن الحاجة من الأرض للآخرين ليُعملوا سواعدهم فيها لمصلحتهم. ونهي المهدي بحزم عن فرض ملاك الاراضي الزراعية لضرائب علي من يستغل تلك الاراضي الفائضة عن الحاجة من الفقراء والمساكين .. ومنها ضريبة ” الدقيندي ” الشهيرة التي أثقلت كاهل السودانيين بعهد التركية السابقة وذلك علي نحو منشوره الآتي :
” ومن كان له طين فليزرع ما استطاع زرعه و إن عجز او لا احتياج له فلا يأخذ فيه ( دقيندي ) لأن المؤمنين كالجسد الواحد وان كل مؤمن ملكه من الطين له ولكن من باب احراز نصيب الآخرة فما لا يحتاج اليه يعطيه لأخيه المؤمن المحتاج “.. ( ابوسليم : مصدر سابق)..
وفي هذا الشأن يظل التساؤل قائماً عما اذا كان فردريك إنجلز مفكر الاشتراكية الأبرز قد اطلع علي ما خطه قلم المهدي او بلغه بعض تفاصيل ذلك حينما قرر جازماً :
” ان الثورة المهدية هي حركة نشأت بسبب الصراع بين الأغلبية المُستغَلة ( القبائل الرحل ) والأقلية المستغِلة ( اثرياء المدن )..” .. ( سمرنوف: المهدية من وجهة نظر مؤرخ سوفيتي ).. ويظل ذات التساؤل قائماً إن كان ذلك هو ما دفعه ( اي انجلز ) للكتابة لاحقاً عن “المهدي السوداني الذي جابه الانجليز ظافراً في الخرطوم” .. و إن بقي قدر معقول من التحفظ علي استقراء انجلز لحقائق الأشياء عن الثورة المهدية من علي البعد كما أورد ذلك الاستاذ تاج السر عثمان ( انجلز : مجلة العصور الحديثة ، نقلا عن الاستاذ تاج السر عثمان .. مقال بعنوان فريدريك انجلز والثورة المهدية، موقع الحوار المتمدن ). أما المؤرخ الروسي البروفسور سيرجي سمرنوف فلا يخفي نظرته لتلك الإصلاحات التي دعا لها قلم المهدي من زاوية تقدمية حين يقول :
” لم تقض الثورة المهدية علي مصالح كبار التجار البرجوازيين ، وكبار ملاك الأراضي الإقطاعيين الذين كانت تؤيدهم الطبقات الحاكمة في الأقطار الأجنبية فحسب ، بل قضت ايضا علي الاحتلال الأجنبي والموظفين التابعين للحكم الاجنبي وكافة أشكال و أدوات الحكم الاستعماري” .. ( سمرنوف : نفسه ) .
وفي سياق متصل يتعرض الدكتور عبدالله علي ابراهيم بقدر أكثر تفصيلاً لتداعيات ما كتبه المهدي علي ثري الواقع حينما يتطرق لمنشور المهدي للكبابيش والذي قال فيه :
” ولا يتشاجر اثنان في طريق الزرع ولا يدعي احد وراثة ارض من آبائه و اجداده ليأخذ منها خراجاً او يقيم بها و هو ساكن لأجل ذلك ” .. فكما يتبين من ما سبق انه هنا لا يعترض علي توارث الأرض بقدر ما يعترض علي الخراج الباهظ الذي يفرضه أصحاب الأراضي الغير مستغلة علي غير القادرين من البسطاء .
ومن المهم هنا التطرق لخلفية العلائق المجتمعية والقبلية المعقدة التي وطدت من خلالها السلطة الاستعمارية أركانها في السودان. وليس أدل علي ذلك من شيء مثل ارتباط مصالح أرستقراطية النوراب الحاكمة عند الكبابيش بالنظام الاستعماري الذي كان قائماً قبل المهدية مما أتاح لها امتيازات اقتصادية تفضيلية من خلال نظام ” التبع ” والذي جعل كلمتهم الأعلي بين قبائل أخري في المنطقة كالكواهلة والشنابلة و بني جرّار بكردفان .. وليس بمستغرب أن تشير بعض المصادر لتمدد نفوذهم حتي مضارب النوبة في الجبال الشمالية جنوبا ً والزغاوة والفور غرباً . ويري عبدالله علي ابراهيم أن منشور المهدي المار ذكره :
” قد إنبني علي معرفة سديدة بالجغرافية السياسية لبادية شمال كردفان بحيث يصح القول أنه كان بمثابة برنامج سياسي عرض للخاضعين لأرستقراطية النوراب أفقاً للتحرر من علاقات التبعية للنوراب والتحالف مع المهدية التي عززت مصالحهم في إطار السياسات المحلية لمناطقهم ” .. كما يري عبدالله علي ابراهيم ايضا أن : ” تعاليم المهدية التطهيرية قد حملت تهديداً قوياً للبني الاجتماعية والأخلاقية لأرستقراطية النوراب القائمة علي الثروة”..وذلك لطبيعة التركيب الطبقي المعقدة لمجتمع النوراب وارسترقراطيتهم الحاكمة والذي يستطرد الدكتور ابراهيم في وصف واحدة من صوره حين يقول :
” يكمن إحتقار واضح للفقر في اعماق نظرة أرستقراطية النوراب الحاكمة للحياة فالذي لا يملك شيئاً في بيئتهم يحتل إحدى خانتين فهو اما متفضل عليه من ذوي السعة مما يدخل في دائرة اعتدادهم وفخرهم و اما مُتندر عليه “.. (ع.ع.أ : المهدية والكبابيش ، نحو مشروعية للمعارضة) ..
وعلي المستوي الاجتماعي اصطدمت منشورات المهدي الإصلاحية التي أمر فيها بمحاربة غلاء المهور ومنع النياحة علي الميت بتقاليد اجتماعية عريقة شكلت أوتاداً راسخة استندت عليها ثقافة أرستقراطية النوراب الحاكمة، ومن ذلك منشوره الذي جاء فيه :
” يلزم الا تكون لكم مباهاة في الأعراس ولا في غير ذلك فمن يتزوج منكم تكون وليمته بتمر كوليمة فاطمة بنت رسول الله(ص) او مع طعام كوليمة ام المؤمنين … ومن لم يقدر ولم يطب له قلباً بما ذكرت فلا يزيد من خروف و ذلك إسراف . ولا تزيد العزبة عن خمسة ريال ولا البكر عن عشرة ريال و اللبس لا يزيد عن ثوبين و كل ذلك خروجاً عن المباهاة وحب الدنيا “.. ويلوح المهدي في اخر المنشور بمصادرة المال المبدد بالإسراف في المباهاة بالأعراس والمهور من صاحبه لمصلحة الفقراء و المساكين .. وفي ذات الإطار يقول عبدالله علي ابراهيم: ” في مجتمع ذي مراتب قائمة علي الثروة يفتئت مثل هذا الامر علي امتيازات ذي السعة ” .. و يستطرد اكثر فيما يختص بتعارض منشور منع النياحة علي الميت المهدوي مع تقاليد الكبابيش الراسخة بهذا المضمار حين يقول : ” فمن طقوس النياحة اجتماع القبيلة حول النقارة لدي وفاة واحد منها وقد تَرَكُوا ثغرة تدخل منها الإبل وغيرها لينالها الواقفون تعليقاً علي نوعها وعددها وتأتي اخيراً إبل المتوفي وعلي كل ناقة جرس فتُغلق الثغرة وتدور ثلاثا منها داخل الحلقة ثم يُفصَّل صغارها من امهاتهم فينشأ صوت حنين كظيم متبادل بين الصغار والامهات ليشيع مناخاً من الآسي والفقد وينتحب الرجال والنساء علي السواء .. فعلاوة علي أن الاجتماع علي الفراش استعراض لثروة المتوفي والآخرين فشأن المتوفي أيضاً يزداد طرداً مع ما يملك أي مع كمية الأصوات الصادرة من إبله صغاراً وكباراً .. لهذا يصبح النهي عن اجتماع النياحة والفراش إفتئاتاً علي الموسرين إذ يقع مشهد وداعهم الأخير في جملة امتيازاتهم القائمة علي الثروة “.. ( ع.ع.أ : مصدر سابق ).
ولعل تلك المقدمات – في رأينا – تفسر جيداً الاصطدام الحتمي القادم بين أيدولوجيا الزهد المفضية الي اقتسام الثروة والسلطة و ما يقابلها من ايدولوجيا تستند علي الجاه القبلي الموروث والغير قابل للقسمة علي اثنين والذي يتوكأ علي قيم اجتماعية يصعب تجاوزها بالمقابل الموضوعي . ويبقي كلٌ من الموقفين مُفسراً ومُبرراً في سياقه التاريخي.. ومن المهم هنا الإشارة الي أن فرعاً لا يستهان به من النوراب بقيادة الامير عوض السيد قريش قد انضم للمهدية منذ معركة شيكان وكان لهم راية بذات القيادة في معركة كرري ..بينما ظل قطاع مهم من النواراب علي موقفهم السابق من العداء لتلك السياسات التي دعت لها المهدية لتضاربها البيّن مع مصالحهم و ثقافاتهم المحلية المستندة الي إرث اجتماعي ضارب في البداوة.
ويبدو جلياً أن قسمات الثورة الإقتصادية والإجتماعية التي بشر بها قلم المهدي قد وجدت طريقها للتشكل في أذهان الكثيرين فيما وراء البحار .. ومن المدهش حقاً أن يتحدث عن ذات الرؤي .. سياسي ثوري بارز بالتيار القومي الأيرلندي وصحفي مرموق علي نحو جي جي او كيلي ( J.J.O’kelly)..فعلي الرغم من البرازخ التي تفصل بين السودان و ايرلندا إلا أن أخبار الثائر السوداني لم تكن لتتواري عن صحافة ايرلندا . فكتب او كيلي محيياً جهود محمد احمد المهدي كمصلح اجتماعي واقتصادي وعبر عن أشواقه بحسب كلماته :
“لتمتد أيدي هذا البطل الاسلامي الجديد لتلتقي مع جهود الاشتراكيين الفرنسيين والألمان .. لأنه رجل يتفق قلبه معهم و إن كان هو ( اي المهدي ) أكثر عمقا منهم في هذا الشأن” .. ( مقال تحت عنوان مفكرة رجل أيرلندي .. ل Padraig Yeates : صحيفة التايمز الأيرلندية ٢٤ اغسطس ٢٠٠٩ ) . ومع بروز ارهاصات تكون تيار يساري عريض داخل حركة القوميين الأيرلنديين المطالَبة بالاستقلال من بريطانيا ، يبقي من العسر بمكان تحديد الدوافع الحقيقية لمساندة تلك الحركة للثورة المهدية في السودان وحملها في إطار تنامي مد الوعي عند النخبة الايرلندية بنظرية حتمية الصراع الطبقي المرتبطة بفكر اليسار وإعمالها بالتالي – بموضوعية- علي خارطة احداث القرن التاسع عشر . بيد أنه بالعودة لما سبق مما كتبه اوكيلي صراحة ً عن الملامح الاشتراكية في فكر المهدي تظل تلك الفرضية قائمة بأسانيد موضوعية وإن اقترنت ببعض التحفظ حيال النهايات التقريرية التي ساقنا اليها الكاتب والتي لا تنسجم مع طبيعة الخندق الثقافي والفكري المغاير الذي انطلقت منه المهدية .
ويبقي إعجاب حركة القوميين الايرلنديين بشقيها اليساري والجمهوري بالثورة المهدية كحركة تحرر وطنية هزمت قوي إمبريالية عالمية كبريطانيا و بكاريزما المهدي تحديداً في موضعٍ لا يدانيه شك .. ويتجلى أثر ذلك بصورة أكبر فيما نقلته صحيفة (Freeman’s Journal ) بتاريخ ١٨ ابريل ١٨٨٥ عن تظاهرة شعبية حاشدة للقوميين الايرلنديين بمقاطعة Tipperary بجنوب ايرلندا فأشارت الي مقاطعة الحضور للمتحدثين في اكثر من مناسبة بهتاف يحيّ المهدي .. Cheers for the Mahdi .. وأثني السياسي القومي الأيرلندي البارز “Mr.P.O’Ryan ” علي زعيم حركة التحرر الايرلندية آنذاك ” بارنيل” او ” Parnell” .. ووصفه لفظاً بالمهدي الأيرلندي .. ” Irish Mahdi” الذي سيمضي علي خطي سميه الاصلي في السودان والذي سينتصر وسيسخر في النهاية من مخططات اعدائه الانجليز البائسة. ( ارشيف الصحف الايرلندية.. صحيفة Freeman’s Journal عدد ١٣ ابريل ١٨٨٥) .. وفي نفس السياق نقلت صحيفة Herald York الانجليزية خبر المحاضرة الشهيرة التي ألقاها السياسي القومي الأيرلندي البارز ” جون ريدموند” والعضو البرلماني النشط في مدينة نيوكاسل الانجليزية عن الثورة المهدية والتي حيّا فيها كفاح السودانيين ضد بريطانيا .. بعنوان ” التحية للمهدي و رجاله ” …. ” Cheers for the Mahdi and his men ” .. ( انظر ارشيف الصحافة البريطانية ، صحيفة Herald York بتاريخ ٢٣ مايو ١٨٨٥).
ويسهب المفكر المصري الراحل الدكتور عبدالودود شلبي والذي نال درجة الدكتوراة من جامعة اكسفورد البريطانية في ” الاصول الفكرية لحركة المهدي السوداني ودعوته ” في الحديث عن الإجراءات الاقتصادية التي تعرض لها قلم المهدي حين يقول :
” في ٩ جمادي الاخر ١٣٠٢ أصدر المهدي أمره بالاستيلاء علي الدكاكين والطواحين القائمة علي النيل بمدينة الخرطوم و ضمها الي بيت المال ، وفي ٢٢ شعبان من السنة نفسها ، أمر بالاستيلاء علي المشارع و هي مرافئ للسفن النيلية – وكانت هذه المشارع تؤجر للناس مقابل مبلغ سنوي يدفع لبيت المال ، هذا الاستيلاء او التأميم بلغة العصر الحديث ظاهرة جديدة تستحق النظر والالتفات ، فمن اين جاء المهدي بهذه الأفكار التي سبق بها ماركس وإنجلز وغيرهما “.. ( شلبي: الاصول الفكرية للمهدي السوداني). ويتفق الكاتب والمفكر المصري الدكتور محمد عمارة مع عبدالودود شلبي في أعقاب سياحة مماثلة في كتابات المهدي و رؤاه الإصلاحية المجتمعية حين يقول : ” تلك هي قسمات الفكر الاجتماعي في الثورة المهدية ، تؤكد انها ثورة فقراء صنعت بما فجرته من طاقات روحية في الشعب السوداني أشياء يدهش لها الباحث فيما خلفت من وثائق و منشورات. وهي تؤكد في كل جوانبها انها كانت واحدة من ابرز حركات اليقظة التي تصدت بها الأمة في السودان للتحديات التي فرضها عليها أعداؤها في ذلك التاريخ “.. ( عمارة: تيارات الفكر الاسلامي ).
صفوة القول أن قلم الإمام المهدي قد تصدي لجملة من القضايا والتحديات التي جابهت الوطن وأهله بسودان القرن التاسع عشر فكتب وأصلح و اجتهد و جاهد بقدر ما استطاع .. وخلف تراثاً هائلاً احتوت عليه منشوراته .. ما زال الي يومنا هذا يحتاج الى الكثير من التنقيب والتمحيص الأكاديمي الأمين حتي يُنصف هذا الرجل الذي حرر وطنه و هزم بالروح التي أحياها في شعبه أعتي إمبراطوريات العالم التي لم تركن الشمس في بقاعها الشاسعة للتواري أبداً . وبناءً علي ما تقدم فليس هناك أبلغ مما كتبه المفكر الراحل الاستاذ محمد علي جادين عن رحيل المهدي حينما جزم قائلاً :
” بإستحالة إيجاد بديل لهذا النوع من القيادة التاريخية ، إذ يعتبر دورها الأبرز في تفجير الثورة وقيادتها ، ثم تقمصها لصفة الرمز في أذهان و وجدان الجماهير ، ذلك في حد ذاته عنصراً مهماً من عناصر جاذبيتها الشعبية وقياديتها لا يتوفر للرجل الثاني مهما كانت أهمية دوره في الثورة . كما إن هذه النوعية من القيادة تتمتع عادة بخصائص زعامية إستثنائية إستوجبتها لحظات انعطاف تاريخي معين ، مما يستحيل معه وجود شخصين من نفس النوع في بلد واحد في فترة معينة بمثل هذا الوزن الاستثنائي لشخصية محمد احمد المهدي “… ( جادين والصاوي : مصدر سابق).
المصادر :
١) الآثار الكاملة للإمام المهدي ، بروفيسور محمد إبراهيم أبو سليم ، دار جامعة الخرطوم للنشر ، الخرطوم ، ١٩٩٢.
٢) الثورة المهدية في السودان .. مشروع رؤية جديدة ، محمد علي جادين وعبدالعزيز الصاوي ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، لبنان ، ١٩٩٠.
٣) دولة المهدية من وجهة نظر مؤرخ سوفييتي ، سيرجي سميرنوف ، دار الجيل ، بيروت ، ترجمة هنري رياض ، 1994.
٤) الأصول الفكرية لحركة المهدي السوداني و دعوته ، الدكتور عبدالودود شلبي ، الناشر : مكتبة الآداب ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ٢٠٠١ .
٥) تيارات الفكر الإسلامي ، للدكتور محمد عمارة ، دار الشروق ، القاهرة ، مصر ، ١٩٩٧.
٦) الإرشيف الإلكتروني للصحافة البريطانية والإيرلندية.
٧) باب (المهدية والكبابيش ، نحو مشروعية للمعارضة) من كتاب الصراع بين المهدي والعلماء ، للدكتور عبدالله علي إبراهيم ، مركز الدراسات السودانية ، ١٩٩٤ .