كتبت هذا المقال منذ سنة إلا شهرا تقريبا، في 25 يوليو من العام 2019 واليوم أعيد نشره مع اضافة مقدمة قصيرة لما استجد بالخصوص وتعديلات تأخذ الزمن في حسبانها.
حتى يوم الناس هذا ما زلنا في مربع ما سبق أن كتبته من تحليل من وجهة نظري، ولم تتضح بعد اجابات متيقنة توجه اتهامات محددة لأشخاص بعينهم للكشف عن: من أمر ومن نفذ ومن تواطأ.
ما استجد خلال هذه السنة اصدار رئيس الوزراء السيد عبدالله حمدوك قرارا بتشكيل لجنة قانونية وطنية مستقلة في 21 سبتمبر 2019 برئاسة المحامي الأستاذ نبيل أديب والسيد عثمان محمد عثمان مقررا وعضوية السادة : عصمت عبدالله محمد طه،خالد مهدي، محمد زين الماحي، و احمد الطاهر النور، وقد أدت اللجنة اليمين الدستورية أمام رئيس الوزراء ورئيسة القضاء نعمات عبدالله في الأول من نوفمبر 2019 وقد أعلن رئيسها أن لديهم صلاحيات كاملة للتحقيق مع أي شخص بكل نزاهة وشفافية. وقد كان من المفترض أن تكمل اللجنة أعمالها في غضون ثلاثة أشهر لكنها طلبت التمديد للاستماع لمزيد من الشهود .وفي 16 مارس 2020 طلبت اللجنة التمديد لثلاثة أشهر أخرى ربما أعلنت بعدها أو في غضونها نتيجة ما توصلت اليه ان انتهت من أعمالها.
في حديث منشور لرئيس اللجنة على القدس العربي في 28 مارس حاورته فيه نهلة مجذوب صرح أستاد نبيل اديب أنهم استمعوا لثلاثة ألف من الشهود ولديهم 1400 فيديو عليهم تمحيصها ودراستها عبر تقارير فنية لخبراء من مختبرات جنائية مشهود لها.وفي الحوار المنشور ذكر أنه سيقوم بتوجيه اتهامات مسنودة ببينات (ولن يهمه الشارع ولا الحكومة ولا الشخصيات القيادية لأنه مهتم بالحقيقة فقط ليصل للاتهام الذي تسمح به القوانين السائدة للجهات التي يبدو أن هناك سببا للاعتقاد بأنها ارتكبت جرائم في هذا اليوم).
وفي حواره مع اندبندت عربية يوم 2 يونيو الجاري صرح أستاذ نبيل أنه استمع لجميع الذين لهم صلة بفض الاعتصام أو بصدد الاستماع اليهم بحسب خطة مرسومة وأنه بحسب قرار تكوين اللجنة كل الحصانات مجمدة لذلك اللجنة غير مطالبة برفع الحصانة ولم يحدث أن طلبوا جهة للتحقيق فتمنعت بسبب الحصانة. وان نتيجة التقرير الجنائي ستوضح اذا ما كان ما ارتكب في القيادة من ضمن الجرائم ضد الانسانية التي يمكن التعامل معها ضمن القانون الجنائي السوداني لضمان عدم افلات أي شخص من العقاب مهما كان منصبه ولم يُرد الاجابة على سؤال :هل يحتاج فض كولومبيا لقوى بهذا الحجم لأن الاجابة تتطرق لنتائج التحقيق وأنه يأخذ كل التصريحات في الحسبان (مشيرا لما ذكره الفريق ياسر العطا في 24 مايو المنصرم بخصوص قيام طرف ثالث بفض الاعتصام، والفريق أول حميدتي 25 مايو 2020 عن ايقافهم 13 دبابة كانت متحركة لفض الاعتصام بتاريخ 11 ابريل 2019 وهي تصريحات لاحقة لما ذكره من قبل مما وصفه بمحاولة شيطنة قوات الدعم السريع) ولكنها- أي تلك التصريحات لن تدخل في يومية التحري بحسب أستاذ نبيل الا اذا رؤي فيها ما يستدعي التحقيق بشأنه وجزم بأنه لم يتعرض لأي ضغط من جهة نافذة فيما عدا ضغوطات التواصل الاجتماعي وتهديدات لا يلقي لها بالا الا ان أثرت على سير العدالة.
كل تلك التصريحات تجعلنا مطمئنين على سير العدالة فليوفق الله لجنة التحقيق في فض الاعتصام للوصول للحقيقة كاملة.
وحتى ذلك اليوم الذي نرجو أن يكون قريبا أعيد نشر هذا المقال بالخصوص مع تغيير طفيف لمواكبة ما استجد.
في البدء أترحم على شهدائنا الأبرار وهم (ما ماتو عايشين مع الثوار) ينتظر ذووهم وننتظر كلنا القصاص لهم ممن قتلهم وقتلنا ونحن أحياء ففي (القصاص حياة يا أولي الألباب).
و أسوق خالص التهنئة للثوار الذين تمترسوا بمثابرة مدهشة (زي صبة الاسمنت) نفضت عن الشخصية السودانية “لا انسانيات” عديدة لحقتها ، والتحية لهم ثانية على حراسة الثورة ومكتسباتها من تجني النظام المباد وحراسه ..
منذ الثالث عشر من ديسمبر 2018 ،إثر زيادات في أسعار السلع، انتظمت البلاد ثورة عمت قراها والحضر- بدأت عفوية في الدمازين في التاريخ المذكور وانفجرت في 19 ديسمبر في عطبرة، لتستمر بعد ذلك على هدى برنامج وجداول زمنية محكمة على مدى أربعة أشهر كاملة انتهت في يوم 6 ابريل 2019 الى اعتصام عبقري في وحول حرم القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية بلغت أعداد المعتصمين في بعض الأحيان ملايين عديدة، وهي ثورة مستمرة حتى يوم الناس هذا حتى تنتهي لتحقيق مراميها كاملة في الحرية والسلام والعدالة.
اعتصام القيادة الذي استمر لمدة شهرين إلا ثلاثة أيام -حين تم فضه في فجر الثالث من يونيو 2019، بوحشية تفوق الخيال، جسد عبقريةً سودانية مدهشة: في الفن والمحبة والتعاون والعمل الطوعي والجمعي والتكافل والتراحم والإيثار. وخلال تلك المدة القصيرة من عمر الزمان تمكن من عرض مخزون هائل من الإبداع السوداني والتعايش السلمي والاحترام المتبادل حيث اختفى كل تعصب إثني أو ديني أو نوعي أو طبقي أو حزبي، بقي فقط: (النيل ابونا والجنس سوداني). وعلى نسق اعتصام القيادة المركزي استنسخت اعتصامات في مدن سودانية أخرى، بذات الفكرة والهدف: اعتصام حول مراكز قيادة القوات المسلحة في الولايات بغرض إيصال صوت الشعب للقوات المسلحة السودانية في عقر دورها لتنحاز للثورة.وبالفعل بعد خمسة أيام من بدء الاعتصام وفي يوم 11 ابريل 2019، أعلنت قيادة القوات المسلحة بلسان الفريق عوض بن عوف ممثلا أيضا للقوات الأخرى من أمن ودعم سريع انحيازها للثورة بخلع رأس النظام المباد وأعلن قادة المجلس العسكري في مرحلتيه(بقيادة بن عوف ولاحقا البرهان) وعدا مكررا بعدم نيتهم فض الاعتصام والاستمرار في استضافة الثوار وحمايتهم.
في هذا المساحة سنتناول فض اعتصام القيادة المركزي .. فمن فض الاعتصام في ذلك اليوم الكئيب الحزين مخلفا ما يزيد على مائة من الشهداء والاف الجرحى وأعدادا من المختفين؟
هذا السؤال المحير الموجع حاصر السودانيين في داخل الوطن وخارجه وأدمى قلوبهم وأفقدهم ثقة بدأ للتو غرسها في القوات النظامية. بل أحزن حتى المجتمع الدولي الذي كان يشاركنا فصلا عبقريا وملهما من تاريخ السودان.
كون المجلس العسكري لجنة تحقيق في يوليو 2019 برئاسة مولانا فتح الرحمن أعلنت نتائجها المتعجلة بأن ضابطين لم تكن لديهما تعليمات قاما بمخالفة الأوامر وبتحريك قوة مكافحة الشغب التابعة لقوات الدعم السريع ووجهوا الأوامر بجلد المعتصمين. وقوات مشتركة من القوات الأمنية تجاوزت مهامها واقتحمت الاعتصام وأطلقت الأعيرة النارية وأن 87 قد قتلوا وأصيب 168 وهي النتائج التي أعلنت قوى الحرية والتغيير رفضها مطالبة بتكوين لجنة مستقلة.(في تاريخ كتابة المقال 25 يوليو تم تكوين اللجنة لكن نتائجها لم تكن قد أعلنت بعد).
واليوم الأربعاء 3يونيو 2020 تعهد رئيس الوزراء عبدالله حمدوك في كلمته للشعب السوداني بمناسبة ذكرى فض الاعتصام الأولى، ببذل كل جهد لتحقيق العدالة الشاملة والقصاص لأرواح ضحايا مجزرة فض الاعتصام والكشف غن (المجرمين الحقيقيين وراء جريمة فض الاعتصام ومحاسبتهم).
ليس من أغراض هذا المقال ولا ينبغي له طبعا توجيه اتهامات لجهة معينة لتترتب عليه اجراءات قانونية ضدها ولكنه فقط محاولة لقراءة ما حدث منطقا ومحاولة تصور ما يمكن أن يكون عليه الحل بناء على فرضيات ما حدث .
بعد إعادة شبكات الاتصال الاسفيري – حوالي منتصف يوليو 2019، أو قبل ذلك بقليل ، بأمر قضائي وقد كان تم فصلها منذ يوم 3 يونيو يوم فض الاعتصام ، تمكن الجميع من متابعة ومشاهدة العديد من الفيديوهات الصادمة التي نقلت بالكاميرا صوتا وصورة الانتهاكات التي يشيب من هولها الولدان. تلك المشاهد إضافة لتصريحات شهود عيان و ما صرح به أعضاء المجلس العسكري- حينها هي زخيرتنا لفهم ما قد يكون وقع في ذلك اليوم المشئوم.
لمحاولة تحقيق بعضا من ذلك الفهم، نطرح عدة أسئلة عساها تساعدنا في الفهم مثلا:
– ما هية مكونات هذه القوات المقتحمة ،فقط من ناحية مظهرية طبعا لأنه كل طريقة أخرى للتأكد من الجهات التي تتبع لها غير متاحة لي.
– من أمر بفصل النت؟
– كيف برر قادة المجلس العسكري ما حدث؟
– فض الاعتصام :مصلحة من؟
بالنسبة للسؤال الأول بحسب مشاهدات من كانوا هناك والأفلام المصورة تظهر قوات بلبس:الدعم السريع البيج المرقع ولبس النجدة والعمليات المرقع بلون لبني فاتح وغامق ولبس أسود هو لبس القوات الخاصة ..كما شوهدت وصورت بكاسي بكابينة واحدة بيضاء لدى اتجاهها صوب القيادة وشوهدت عربات تابعة للدعم السريع ودفارات مكافحة الشغب(الكجر) بالنسبة لاجابة هذا السؤال حتى الأعمال التي ارتكبت من قتل وحرق واغتصاب التي تأخذ النظر الى ما حدث في دارفور ذات دلالة لكنها غير كافية خاصة إذا كان القصد تمويه و توجيه اتهام لجهة معينة.شهد بعض الشهود بتباين واضح في نوعية تدريب هذه القوات حتى التي تلبس نفس اللبس! يجب أن نأخذ في الحسبان أن نوع اللبس والعربات لا يدلان على كنه القوات وماهيتها، خاصة وأن جهاز الأمن والمخابرات يلبس أعضاؤه :ملكي وكل أنواع لبس القوات النظامية الأخرى كما يعتلون كل أنواع عربات القوات النظامية وغير النظامية الأخرى.كما أن قوات الأمن الشعبي وتلك التي تعرف بمليشيا الظل التابعة لتنظيم المؤتمر الوطني غير بعيدة عن الصورة والأذهان.
يقدر البعض في غياب معلومة كاملة عدد العربات بالعشرات والقوات الراجلة والراكبة بالآلاف!
الأمر بفصل النت فسره المجلس العسكري على لسان الفريق ركن شمس الدين الكباشي بأنه يضر بأمن البلاد! فالمجلس العسكري إذن هو من أمر بذلك سواءً اتخذ القرار جماعيا أم كان موقفا يمثل بعض أعضاء المجلس. هذا ما يمكن معرفته من التحقيق الرسمي.
المجلس العسكري أيضا على لسان ناطقه الرسمي الفريق ركن الكباشي قال أن اجتماعهم الذي اتخذ فيه القرار كان متعلقا فقط بمنطقة كولومبيا المتاخمة لمنطقة الاعتصام وعلى النيل وأن ذلك كان بمشاورة النائب العام الوليد سيد احمد (اقيل بعد أسابيع قليلة من تعيينه على إثر نفيه في مؤتمر صحفي حضور اجتماع بخصوص فض الاعتصام). وبرر دخول القوات على منطقة الاعتصام بأن أعدادا غفيرة من منطقة كولومبيا أمَت منطقة الاعتصام فطاردتها القوات النظامية وبرر حمل السلاح بأنه كان لحماية القوات المسئولة عن الفض وهي قوات هجين من الأمن والشرطة والجيش والدعم السريع .يقلل من شأن هذه الرواية بل يكذبها أن فض الاعتصامات تزامن في كل ولايات السودان الأخرى،مما يدل على أن فض الاعتصام كان مقصودا لذاته.
كما أوضح الفريق البرهان في تصريح له القبض على القائد الذي أمر بفض الاعتصام وهو بحسب ما رشح لواء في جهاز الأمن منتدب لدى قوات الدعم السريع بعد أن برأ كل أعضاء المجلس من التهمة.
وفي ذات السياق أنكر قائد الدعم السريع مسئولية قواته بأمر منه عن الفض ولكنه أقر بأن قواته مخترقة من كافة القوات الأخرى!
مصلحة من؟
لا شك أن الاعتصام بزخمه على تخوم القيادة والمفاوضات قائمة شكل كرتا ضاغطا لصالح الثوار: مفاوضوهم في الطرف الآخر يريدون اتفاقا لا تدفع فيه كل الاستحقاقات..كما أن تصرفات المجلس قبل وبعد المجزرة فيما يتعلق بحديث مكرر عن الخطورة التي تمثلها منطقة كولومبيا وما يدور فيها من ممارسات وقطع النت وإقالة النائب العام على إثر تبرؤه من حضور اجتماع أمني خاص بالفض والإعلان عن الرجوع للتفاوض بعد فض الاعتصام مباشرة والمماطلة في إعلان نتائج التحقيق- وقد أعلنوا توصلهم لها ، كلها تشير للمجلس (مجتمعا) بأصابع الاتهام لكن هل بهذه الطريقة البشعة التي تقطع شعرة معاوية؟ خاصة أن بعضهم بدأ في تسويق نفسه كقائد جماهيري!
النظام المباد والثورة المضادة وأنصارها من الذين يرفضون أي تقارب بين المجلس العسكري والثوار الذين تمثلهم الحرية والتغيير، على رأس قائمة الاتهام، خاصة أن الهجمات السابقة (8 رمضان و10 رمضان)حدثت تزامنا مع الوصول لاتفاق وهي أيضا لم يعرف من وراءها تحديدا . هم يريدون استمرار الوضع مموها لوضع يجعل الاتفاق صعبا. ويريدون استمرار الفوضى لدرجة توصل لقناعة أن التفاوض فشل و البديل هو انتخابات فورية ويحسبون أن عدة هذه الانتخابات وعتادها تحت أمرهم متى ما قامت فورا. عندهم المال والدولة الموازية والسلاح والتزوير شغلهم.
مهما كانت مسئولية المجلس العسكري جماعة أو أفرادا تواطئا أو أصالة أوكان هذا التدبير من خارجه و قامت به جماعة الثورة المضادة والنظام المباد، لا نعفي المجلس العسكري من المسئولية المباشرة على الأقل بالسماح وعدم التدخل للصد فمن غير المعقول أن توجد كل تلك القوات بعدتها وعتادها تمارس أبشع جرائم ترقى لتصنيفها من جرائم الحرب وترتكب مجزرة على مرمى بصر وسمع مباني قيادة القوات المسلحة دون أن يكون لهم دور ما.
هم مقصرون عن حماية المواطنين على أقل تقدير وهي المهمة الأولى التي تبرر بقاؤهم مثلما كانت تصريحاتهم، ناهيك عن التقصير في حماية من هم في عقر دارهم وهو تقصير يستوجب الاعتراف والاعتذار ومحاسبة المسئولين المباشرين دون تأخير.
نسأل الله تعالى للجنة التحقيق عن فض الاعتصام التوفيق والنجاح في الوصول للجناة ليرقد الضحايا في سلام ولنطمئن على تمكين العدالة وعلى تحقيق شعارات الثورة التي ضحى من أجلها ثوارنا الأبرار فكانت دماءهم الطاهرة مهرا للحرية.
وسلمتم