يمكننا القول إن فوز القاص والروائي الدكتور بشرى الفاضل بجائزة “كين الأفريقية” لهذا العام، هو إعادة تتويج للقصة البديعة “حكاية البنت التي طارت عصافيرها”، ولمجمل المنتوج القصصي لبشرى الفاضل، فمما لا شك فيه أن هذه القصة والمجموعة التي تحمل عنوانها شكلت ثورة أسلوبية في مسيرة القصة القصيرة السودانية، وأعملت ما يمكن أن أصفه بـ”القطيعة القصصية” مع مجمل التراث القصصي السابق لها، ودشنت بالتالي زمناً قصصياً جديداً يمكن تعريفه بالقصة ما بعد مجموعة “حكاية البنت التي طارت عصافيرها”.
ما الذي أحدثه بشرى الفاضل في مسيرة القصة القصيرة السودانية، وما الثورة التي فجرتها مجموعته القصصية سابقة الذكر؟ للإجابة عن هذين السؤالين يستلزم علينا العودة والنظر في طرائق القص وأساليبه ما قبل بشرى الفاضل، وقد يكون كتاب “مختارات من الأدب السوداني” للبروفيسور علي المك، ومجلة “القصة القصيرة” التي كان ينشرها ويرأس تحريرها الأستاذ عثمان علي نور؛ خير معين للباحث في هذا المجال، أما هنا فأكتفي بالإشارة إلى أن القصة القصيرة في السودان ما قبل مجموعة “حكاية البنت..” تشكلت خلال فضائين مدرسيين تتكون عبرهما جدلياً ما بين موضوعاتها وتقنياتها الكتابية؛ المدرسة الأولى هي المدرسة الرومانسية الواقعية، التي ذهب كتابها إلى مطاردة ما عدوه هموماً مجتمعية يستلزم عليهم مساءلتها قصصياً، لا سيما أن البلاد – ما بعد الاستقلال – كانت على أعتاب الحلم بـ “سودان حضاري متقدم”، هذا الحس بالمسؤولية الوطنية والمجتمعية إضافة إلى الإطار الرومانسي الذي اعتمده هؤلاء القصاصون الرواد أثقل بنية القص، وعطل كثافتها المعيارية، وسجنها إما في بكائية حزائنية، أو أدخلها في حالة من الهتافية التقريرية، وأبعدها بالتالي عن حساسية القص، وإن لم يخرجها تماماً من دائرة القصة القصيرة.
المدرسة الثانية التي دارت أفلاك القصاصين حولها هي مدرسة “الواقعية الاشتراكية” بكل قيودها الأيدولوجية، ورساليتيها الموجهة، وانكشافها المسبق سردياً من حيث التوقع والحس القصصي؛ مما جعلها بالتالي كابحاً في مسيرة تطور القصة القصيرة أكثر منها دافعاً لهذا التطور.
هكذا في رأيي كانت تنتج القصة القصيرة في السودان – عدا إشراقات متفرقة – إلى أن ظهر بشرى الفاضل، ودفع للناس بمجموعته القصصية الجديدة فأحدث الزلزلة التي غيرت مجرى القص تماماً.
ما أحدثه بشرى الفاضل في مجموعته القصصية “الثورية” – الجديدة وقتها – أنه أولاً حرر الخيال، وأعاده إلى موقعة الطبيعي في رأس متطلبات القص، انظر قصة “ذيل هاهينا مخزن أحزان”، ثم ثانياً أبدل الحزائنية الرومانسية المعيقة للكثافة القصصية بالسخرية والتهكم؛ مما مكنه من تناول “القضايا” الوطنية والمجتمعية كافة – هموم الرواد – قصصياً من دون الوقوع في فخ المباشرة والتقريرية، انظر قصة “حملة عبدالقيوم الانتقامية”، وثالثاً أخرج الفنتازيا السودانية من قمقمها التراثي “الطبقات، الحكاوي، الأغاني… إلخ” ودمجها مع نداءات “الاشتراكية” الجمالية والأخلاقية، وأنقذ القص بالتالي من فخ “الجفاف” الذي تتسم به الواقعية الاشتراكية، ويجعل نصوصها أقرب إلى الكتيبات التوجيهية، انظر قصة “الطفابيع”.
إذن، لو قيض لنا تقسيم مسيرة القص السوداني إلى حلقات مفصلية أساسية، سنجد أن تجربة بشرى الفاضل تمثل أنضج هذه الحلقات لما أحدثه من قطيعة معرفية تامة مع ما سبقة من كتابة قصصية، وللطريق الذي عبده لمن سيأتي بعده من كتاب اكتشفوا عن طريق كتابه “حكايات البنت..” أن الإمكانات السردية والقصصية سودانيا أكبر وأعمق بكثير من الأسلوبية المدرسية التي كانت سائدة.
هذه كتابة احتفائية في المقام الأول بقاصنا المتفرد الدكتور بشرى الفاضل، عبرها أزجى له التهاني لفوزه المستحق بجائزة “كين” الأفريقية، كما قلت من قبل حين نال جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي في دورتها الأولى، أقول الآن أيضاً أن الجائزة هي التي كسبت.