شاهدت قبل قليل بقناة سودانية ٢٤ تصويراً سياحياً قصيراً يظهر مجموعة من الشباب الخرطوميين المرتدين ملابس عصرية من تشيرتات، وأردية، وأحذية رياضية يتجولون في الطبيعة المحيطة بمنطقة نيرتي تي، ينقلون ويرسلون صوراً، ولقطات للشلالات والخضرة بنبرة تنم عن الدهشة، وتدعو المشاهد إلى مشاركة ما يرونه ويعايشونه دون ان نرى بشراً او حتى بيوتاً بالصور، دعك من الاستماع إليهم وسماع شيء عن ظروفهم المعيشية، وشكاواهم الأمنية.
قبلها بايام قليلة كنت ألاحظ تزايد تدفق المواد المصورة عن غرب السودان بصفة عامة، على ذات العادة القديمة للإنقاذ بعد غارات بالانتينوف، و عندما تشعر بالذنب من الطبيعة التي تنتهكها فتقوم بتصويرها برغبة توصيل رسالة خفية ومختبئة تقول إنهم ومن الصحيح جداً قد قاموا بإشعال حرب جسيمة، وإحداث خروقات وتجاوزات بالغة الإثم بالمنطقة، ولكن علينا كمشاهدين ان نبقى شهوداً على ان الطبيعة ها هى سليمة تماما، لم يمسها ضررا ولم تتحول إلى ولم تتحول إلى خراب مبين بعد. نعم في كل ذلك كنا نفهم ونتفهم ان الإنقاذ ليس لها تقدير للإنسان والاعتراف به.
الآن لا توجد حرب تذكر على الأرض، ولكن نشاهد تصويراً يتم باسلوب ما، كأننا إزاء مهمة استكشافية جديدة لموقع حديث مبتكر بالكرة الأرضية اسمه غرب السودان. إن عقلية السياسة الإعلامية الرسمية التي اعترفت بالتنوع رقصاً، و غناءً، وموسيقى، ومناظر خلابة لمناطق السودان المختلفة، وبما ظللنا نشاهده عبر سنوات ما بعد الاستقلال تعد أشد سوءاً ورعونة من العقلية السياسة الاستعمارية الأوروبية الغرائبية التى وإن نظرت إلى أفريقيا، وبلدان آسيوية، ومشرقية من زاوية الاستعلاء الثقافي، والحضاري، الا أنها قد قدمت في أحايين عديدة خدمات جليلة لا تزال موجودة في مستوى البنى التحتية، ومنظومة الاحتياجات الأساسية لإنسان تلك البلدان والمناطق، وهي تظل الى اللحظة شاهدة على نفسها وباقية.
أما عقلية السياسات الإعلامية المظهرية والتظاهرية، فهى سليلة عقلية ثقافة المركزية الوطنية التي لم تكتف بالتغزل، ومدح جماليات المناطق المسماة بالمهمشة، بل ساهمت في نهبها، وإفقار اهلها، والتمتع بمواردها الطبيعية، وتدمير إنسانها الذي لم تظهر ثنايا ووقائع حياته اليومية الفعلية، كما جوهر أحواله، ولم تتعرض لقضاياه وتعرضها كما هى، في الأجهزة الاعلامية والخطاب الاعلامي الرسمي، كأنما كان كل ذلك ضرباً من المدارة لفضائح الآلة السياسية العسكرية، وسعياً إلى تغطية وتزوير ما خلفته من حروب، ومظالم لن تحلها سياسة (الجودية) التي تتبعها السلطة الانتقالية الحالية على مثال (نرتي تي)، في حين أن عليها البدء بالحلول بعرض ومناقشة الخلل التاريخي على الهواء الطلق المطلق، وعلى الملأ العريض الكثيف لتتعرف الأجيال الجديدة عن اي سودان جغرافي، واجتماعي، وثقافي يجب ان تتحدث وتتكلم.
لقد أدمنا نحن الاجيال المسحوقة بالأساطير المؤسسة على فرادة الذات والنقاء الثقافي والأحادية، والمحتال عليها بأيقونة المركزية الكذوب- اقول لقد أدمنا الإعجاب بالكمبلا، وموسيقى الوازا، ورقصات الشرق وثيابه، وموسيقى النوبة، وقبلا بغناء وموسيقى الجنوب دون دراية كافية بالبني الثقافية الاجتماعية التي أنتجتها، وغذت ظواهرها التي ما كان يجب أن تحث فقط على إثارة الإعجاب بما يحوز انسان السودان من ثروة ثقافية ومادية، ولكن باثارة الرغبة في معرفة الواقع المادي، والعمل على تنميته بوصفه واقعاً مكوناً لهويات وطنية أخرى عديدة لا تزال مجهولة للغالبية، ولا تزال تبحث عن حقوقها الإعلامية والثقافية في إعلام السودان المتحيز رغم الثورة وشعار( يا عنصرى ومغرور كل البلد دارفور)، وخروج اول مظاهرة احتجاجية من الدمازين.
كم تمنيت تطوير الشعار بعد الثورة الى هجرات فعلية معاكسة لقوى الشباب السوداني الى مناطق الحروب الأهلية المتأثرة، والتضامن بالعمل مع اهاليها بكل ما تتوافر من إمكانيات تصحيحاً لأوضاع حكومية مركزية خاطئة سادت وأدت إلى إفراغ المناطق من أهم عناصر بنائها وتنميتها، وهو الإنسان.
من جهة ثانية، أجد أنه قد حان لشباب وأبناء تلك المناطق المهجرين إلى اوروبا وكندا واميركا واستراليا التفكير الجاد في العودة للمساهمة في تنمية مناطقهم وبلدهم بما شاهدوه وعاشوه واكتسبوه من معارف ووعي تطبيقي يمكن ان يستفاد منه في الإعمار، والبناء من جديد، وإدخال الوعى الأهلي في دورة الثقافة والحضارة والتقانة الاقتصادية.
لكم نحن أثرياء بما نملك، ولكم نحن فقراء بما ننظر، ونفكر، ونعمل بسبب غدر السياسة والمفاهيم العنصرية التي لا تساعد على خلق وحدة اجتماعية سودانية ضاربة في عالم يبحث ويسأل عنا صباح مساء لكى نتكلم ثقافياً وحضارياً خراب مبين بعد.