جاءنا الموت زائراً ، فإختار لؤلؤته بعناية . كدأبه منذ أزمان سحيقة، تعلم أن يأخذ مبتغاه ثم ينصرف لمحطات أخرى و هو لا يلوي على شئ . و تعودنا نحن على التسليم بأقدار الله النافذة التي ليس لها من راد .
أخذ في هذه المرة أمنا جميعاً .. أم الأنصار الذين هم بعض من نور هذه الأرض ، روحها.. و دمها الذي ترتوي به منها المسامات و يكتحل بدفق أوردته التراب ..
كضيفٍ نبيل ، ارتسمت أمنا بخطواتها درباً عابراً يمر من هنا ثم رحلت . لم تدخر في مشوارها ذلك أي رزقٍ دون أن تقتسمه مع ذي حاجة أو صاحب مسغبة . يالروعة ذاك المزيج الغريب من الهدوء و الطمأنينة الذي يتوسد وجهها على الدوام . الله .. الله على تلك التفاصيل التي تكلله مع قبسٍ من النور و أرتالٍ من اليقين . بيد أن ما تعلمناه منك سيبقى حياً بيننا بما فيه من الوهج الذي يفوق ذلك كله.. ستبقى دفاترك يا أمي في هذه الدنيا مبذولة لكل من ألقى عليها بصراً ليس فيه زيغ ولا غشاوة .. سيقراءون فيها :
افعل في دنياك خيراً كثيراً و كن كظفر لا ينفصل من لحم محبيه بما تقدمه للناس و الوطن في صمت صموت . كن محسناً تشحذ المال والهمم و الجهد لرفع البلاء عن المرضى . اجعل مثل هذا آخر أعمالك ثم توارى كما يتوارى القمر في ليلةٍ احتشدت بسمائها سحائبُ الظلام . كن كأبيك الصناجة الأرب .. ثم غبْ عنا ونحن نستشرف عيداً وافت طلائعه.. وافت بلا بشر فيها ولا طرب . هل ترى ؟؟ هل ترى ؟؟ هذه أشياء لا تُشترى .. هذه أشياء لا تُشترى ..
لقد ربحت البيع يا أمي الحبيبة و أنت تتركين من خلفك إرثاً عريقاً من الحكمة و التفاني و حب للآخرين كان فيك مقيم . عقود عديدة من الصدق و الحق و نقاء الزاهدين كما شهد بذلك العم الحبيب البروفيسور الشيخ محجوب .. ربط الله على قلبه و حشد الصبر في سريرته .. اللهم ألهم الأنصار و أبناء و بنات الأنصار الذين كانت السيدة إنعام الإمام عبدالرحمن المهدي أماً لهم بلا منازع .. ألهمهم جميعاً صبراً كثيراً على رحيلها ثم ألهم أهلها و ذويها بأقدار منه تعينهم على حياة لا يرونها فيها بينهم .. اللهم انك تعلم أنها كانت باذلة نفسها و حياتها و مالها للخير و الحق و الصدق ، مؤمنة بحق هذا الوطن في النور و الحرية ولا تخشى في سبيله عسفاً و لا ظلمات ، اللهم فأنزلها عندك مع الصديقين و المكرمين من عبادك و أكرمها عندك بما تستحق من رحمتك التي وسعت كل شئ..