تشرَفت بمزاملة البروفسيرعبدالله بريمة فضل، علية رحمة الله، وكنا نسكن سوية في رواق دارفور بالأزهر الشريف في القاهرة في أواسط السبعينيات من القرن الماضي، وكنت طالبا بكلية اللغات والترجمة في جامعة الأزهر، وكان هو، يبحث في أطروحته لنيل درجة الدكتوراه في الآداب، في كلية اللغة العربية، جامعة الأزهر، وكان موضوع بحثه، هو المذهب الأدبي للأستاذ عباس محمود العقاد علية رحمة الله، فكنا نجلس أليه وزملائي، وكان الرجل يتدفق علما ومعرفة، في كل ضروب المعرفة، وكنا نتمنى لو نستطيع تدوين كل كلمة ينطقها، فقد كان مثل العقاد تماما في كل شيء. فمن القضايا التي تحدث لنا فيها، قضية الإلتزام؛ أهمية إلتزام الأديب بنظرية فلسفية توجه منهجه في الإبداع، سواء كان هذا الإبداع شعرا، أو نثرا، رسما، أو نحتا، أو نقدا، أو غير ذلك من ضروب الإبداع، وقد عاصرالبروف، عبدالله بريمة، بعضا من المعارك الأدبية لجماعة الديوان (عباس محمود العقاد، وابراهيم عبدالقادر المازني، وعبدالرحمن شكري)، التي ظهرت في النصف الأول من القرن العشرين من جهة، وجماعة مدرسة أبولو، التي ظهرت في عام 1932، بزعامة (احمد زكي أبي شادي واحمد شوقي وخليل مطران ومصطفي صادق الرافعي، وغيرهم) من جهة أخرى، حيث دارت سجالات المجموعتين في النقد الأدبي، وجميعهم كانوا قد تأثروا بمذاهب النقد الحديثة في الغرب، متمثلة في الغالب بالشعر والنقد الإنجليزي، حيث كان أعضاء الفرقتين درسوا اللغات الأجنبية، وبعضهم عاش في أوربا، وحاولوا إحداث نوعا من التجديد في الأدب العربي عموما، وفي الشعرعلى وجه الخصوص.
وبما أن أطروحة أستاذنا البروفرفسير عبدالله بريمة، كان في المذهب الأدبي للعقاد، فقد كان ديوانيا بمعنى الكلمة، ويقول أن منطوق النظرية الفلسفية التي يلتزم بها الديوانيون، هو أن ( كل حر جميل وكل جميل حر)، وكان يرى أنه لابد أن يكون هذا المفهوم في ذهنية المبدع، كي يأتي بالعمل الفني المبتكر، مستوعبا النظرية أعلاه، وواعيا مجال ومسرح تجواله الفكري وإنطلاقه الذهني، ليأتي بالجديد المبتكر. ويقول أن الديوان بهذه النظرة البارعة، فاق الفلسفة الغربية، التي وضعت العربة أمام الحصان، ولم تتمكن من المشي الى الأمام، لأن فلاسفة الغرب في أفضل حالاتهم، وصلوا لمنتصف الطريق، ثم قرروا النقيض فيما يخص المنطوق الفلسفي لمبدأ الإلتزام في للأعمال الأدبية، وترى جماعة الديوان، أن الفيلسوف الألماني شوبنهور، هوالأفضل من بين فلاسفة الغرب في هذا الجانب، حيث أنه كاد أن يصل الى النظرية الصائبة في مسألة الجمال، لكنه فكر وقدر ثم خلص في أن (الجمال فكرة) وإكتفى من الغنيمة بالإياب.
ترى جماعة الديوان بأن القضية أكبر من ما توصل إليه شوبنهور بكثير، حيث أن فكرة الجماد جميلة، لكن فكرة النبات أجمل من فكرة الجماد، وفكرة الحيوان أكثر جمالا من الفكرتين السابقتين، ثم تأتي فكرة الإنسان كذروة جمالية في كل تلك الأفكار. فما هي الميزة التي تفاضل جمال الأفكار السابقة بعضها من بعض؟ لأن الحقيقة أن فكرة الجماد جميلة، لكنها مقيدة بقانون الجاذبية ولزمت المكان، وفكرة النبات أجمل من فكرة الجماد لأن النبات تحرر من قيد الجاذبية وإرتفع إلى الأعلى، وفكرة الحيوان أجمل من فكرة النبات، لأنها تحررت من قانون الجاذبية وإرتفعت إلى الأعلى ثم تحركت بحرية في كل أتجاه، ثم تأتي فكرة الأنسان التي بعد التحرر من قيود الجاذبية وإنعدام الحركة والقدرة، على التجول كذلك تحررت من قيود إنعدام الوعي وإرترفعت بقدرة العقل فوق الكثير من القيود، وهكذا كلما تحررت الفكرة من قيد ما، صارت أجمل من الفكرة المكبلة بقيد ما. فالطفل إذا تحررت لغته من قيود اللكنة وأفصح في الحديث، صار كلامه جميلا، والراقصة إذا تحررت من قيود الترهل وإلتزمت الإيقاع الموسيقي جاءت الرقصة حرة من تلك القيود فلا شك أنها أجمل من رقصة راقصة لا تجيد التوافق الإيقاعي بالخفة المطلوبة، وكذلك الكلام كلما تحررمن قيود الثأثأة، واللحون، وخرج متسقا مع قواعد اللغة، صار جميلا وهكذا. إذن كلما زادت الحرية في الحركة مثلا، زاد الجمال فيها وهكذا فالجمال والحرية، وجهان لعملة واحدة، كلما زاد الجمال زادت الحرية، إذن إذا كانت الحرية مطلقة، فلا شك أن الجمال أيضا مطلق، ولا توجد حرية مطلقة إلا في الذات الإلاهية، فالجمال المطلق، هو جمال الذات الإلاهية، حيث لا قيد بل حرية على الإطلاق، فالجمال المطلق رباني، فالله هو الحرية المطلقة، وهو الجمال على إطلاقه.
فالعبودية لغير الخالق والإنقياد لإرادة المخلوق في هذه الحياة مهما علا ذلك المخلوق المعبود، هي ذروة القبح الإنساني، بينما الإيمان بالله والإنقياد له وعبادته تكون أولى خطوات السير في طريق الحرية وبداية تشَكل معالم الجمال الإنساني. ثم يمضي الإنسان في سيره كادحا في حياته، يرمي القيود المكبلة لإنطلاقته، ويتخطى العقبات المعطلة لخطواته، غارقا في تأملاته، مقبلا بعبادته يتسامى دايبا في علياء خالقه، في (الحضرة) ليجد ذاته متحررا من كل قيود المادة والقصور الفكري، متلاشيا في الجمال اللانهائي في الذات العلية وقد تحققت له كل مبررات الوجود، وغايات الحياة (يا أيها الإنسان إنك كادح الى ربك كدحا فملاقيه) لا بقطع المسافات، ولكن بإتباع المنهج الرباني (الكتاب والسنة) في معالجة قيود الحياة التي تكبل حرية السير نحو الحضرة، يكافح صور القبح في دربه (فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) سورة طه الآية 120، فهنا المبدع الفنان الملتزم، ينتقي من موضوعات ومواد عالمه، يصوغ منها إبداعاته، يعالج بها لوحاته الفنية، شعرا كان أو نثرا، نحتا كان، أو حتى نقدا، ملتزما بقاعدة ومفهوم، الحرية والجمال وجهان لعملة واحدة، والإلتزام بنص وروح النظرية، يفتح له آفاق التعاطي مع موجودات الكون، الذي في حد ذاته، لوحة مبدع ملتزم بحرية الجمال، وجمال الحرية، صيغت مكوناته لترشد التائهين إلى هناك حيث لاهناك هناك.
وهكذا يكون المنهج الإبداعي أيا كان؛ الترتيب للقيم الجمالية في قائمة تلتزم وضع كل شيء في موضعه الصحيح، تتحرى إستجلاء الجمال اللانهائي بإضفاء القيم، وإعطاء المعاني مواقعها الصحيحة, وصولا إلى الشرح المفضي لمنطوق النظرية، بإتباع سٌلمية تصاعدية شئت، أو تنازلية، لكنها في النهاية توردك الحضرة، لتهتف كأرخميدس وجدتها… وجدتها، وكذلك فعل أستاذنا البروف عبدالله بريمة فضل عند وصوله لهذه المحطة الفارقة بعد معاناة مضنية في معالجة تطنين الأصداء وإنحسارها وشغفه لإستجلاء السر المحتجب فقد كان هتافه بقريحته الشاعرية في قصيدته الرائعة (الأصداء) لتبقى كأروع أبيات قيلت في مثل هذا الموقف الذي يجب فعلا أن يخلَد بأجود ما يمكن لمبدع يخلد بها الموقف في لوحة، شعرا كان أو نثرا أو حتى موسيقى أو لحن أو ما شئت من فنون الإبداع وأساليب التعبير الإبداعي في مسألة تأسر القلوب والألباب حيث قال:-
تطن بمسمعي الأصداء حينا ثم تنحسر
**
ويلمح ناظري الأشباح راقصة فتندثر
**
فيعدو خلفها ولهان يمسكها فتنشطر
**
فيذريها وينساها فتجذبه فيدَكر
**
ويبدأ عدوه في التيه يا للاله من تعب
**
نفاه الغيب في الضفات خلف الزاخر الصخب
**
ينوء بعبئه المضني مشدودا الى الطنب
**
فنقَر في صخور الصمت لم يركن الى النصب
**
وأرسل نظرة حيري تفض ستائر الحجب
**
فعادت حيثما ولَت ولم تحمل سوى الريب
**
كما يطلي المساء النور آخر صفحة الفجر
**
وتوقظ هاجع الأمواج أنواء على البحر
**
فتزحم موجه الضفات تنطق صامت الصخر
كذلك تولد المأساة عند المد والجزر
**
كذلك تولد المأساة عبر مجاهل السر
**
فتكمن في ضمير الكون تكلأها يد الذعر
**
تهدهدها على الإعصار تضجعها على الجمر
**
فيقتات الشعور البض تحت منابت الفكر
**
فيغدو كائنا حيا بلا جسم بلا عمر
**
ويمشي في شعاب النفس من وكر إلى وكر
**
ويبلغ قمة الإحساس عند مشارف النهر
**
كذلك من إهاب اليل ضوء الصبح ينبلج
**
كذلك من دجى الإلحاد يخرج إيمان له وهج
**
ففي هذه المحطة، حيث بداية اللانهاية، و تلاشي الذوات، وذوبان المواد، وإنتهاء المهمة، وسقوط الأقنعة، لا بد من تجسيد هذا التجلي العظيم بعمل عظيم حامدا الله على سلامة الوصول مستمتعا بالتمرغ في الخميرة.
الا رحم الله استاذنا البروفسير عبدالله بريمة فضل، رحمة واسعة واسكنه فسيح جناته مع الصديقين، الانبياء، والشهداء، والصالحين وحسن الئك رفيقا، انا لله وانا اليه راجعون.
(احمد مدني)
الخرطوم 6 يوليو 2020م
Yagouba55@yahoo.com