تبدو جائحة كورونا هي الأصعب تاريخ البشرية المعاصر، فقد
أدت حتى الآن إلى تقييد حركة الناس في كل أنحاء المعمورة، وفرضت على العالم عزلة
جبرية، أصبحت اسلوب حياة للتعايش.
كيف أثرت الجائحة في نفسيات المبدعين، وما موقع الأدب في هذا ظرف الطارئ. في هذا الاستطلاع نتوقف مع أفكار عدد من الأدباء السودانيين والعرب.
الشاعر الفلسطيني موسى حومده: القراءة لم تعد كما كانت ولا الكتابة ولا حتى الحرية
بالتأكيد أن بعد كورونا ليس كما قبلها. كنا في نعمة وحرية لم نكن ندرك قيمتهما. كنا
نستطيع مقابلة أصدقائنا بلا تردد، وحضور مناسبات كثيرة دون قلق، والتمشي في الهواء
الطلق بكل حريتنا.
كان بإمكاننا
أن نعانق أصدقاءنا، ونهمس لهم بلا خوف ولا هواجس، بتنا اليوم نخاف من البشر،
ونبتعد عنهم، مجبرين، ويبتعدون عنا كذلك.
انهار كل ما
تعودناه في حياتنا من أمور صغيرة ومكاسب قليلة. كنا نظن أنها تافهة، وتبيّن أنها
كانت عظيمة في بساطتها وبراءتها وطيبتها ومفاعيلها على أرواحنا، فالإنسان يحتاج إلى
الآخرين. يحتاج إليهم أحيانًا لكي يحتسي فنجان قهوة، ويثرثر معهم، عن كل ما يوجعه
من ألم وشكوك وظنون وخيبات في الأصدقاء والأهل والحياة.
كانت النميمة
تدغدغ الصدر، وتزيل بعض الكآبة عنا، ولكن اليوم لم يعد بمقدورنا قول ذلك وجهاً
لوجه، فقد نقص من الحياة كثير من المتع والسعادة والرياضات الذهنية.
كنا نستطيع حضور الندوات أو الأمسيات مثلًا والمعارض،
وقراءة القصائد وجهاً لوجه فنحس بردّات الفعل المباشرة، وتعرف الكلمات مسارها،
وتعدل من كبواتها أو زهوها، ولكننا اليوم نخفي كل دهشتنا وحبنا وكتابتنا، ونلتجئ
إلى المحطات التلفزيونية، ونتابع أخبار الوباء فنزداد كآبة، ونهرب إلى مواقع
التواصل الاجتماعي فنصاب بالحزن، وتربكنا السطحية والفوضى الكاسحة.
كنت في مصر منذ بداية السنة، حضرت ملتقى الشعر ومعرض
الكتاب وشاركت في عدد من الحوارات التلفزيونية والأمسيات في أكثر من بلد، ولكني
عدت إلى الأردن، ودخلت الحجر الصحي، وكانت تجربة أشبه بالسجن اللطيف، ثم الآن أعيش
الحجر المنزلي.
بالطبع كل شيء تغير وتأثر، لكن ذلك لم يحل دون القراءة
والكتابة والعزلة التي قد يحتاج إليها المبدع، لكني من عشاق الحياة، والحياة عندي
أهم من الكتب والشعر والقصائد، نحن نكتب لتنصير أجمل، ونقرأ لنعرف طرق الوصول
للجمال، أما أن نفقد كل شيء ونقول إننا في عزلة، فالعزلة تكون جميلة حينما تكون
فردية، وبحريتك وليست مفروضة عليك.
لقد انكشفت تفاهة الدول الرأسمالية والمتقدمة، وهي
تستغل البشر، وتسوق منتجاتها الاستهلاكية، وتدعي بلوغ القمة في التصنيع، وها هي
تعجز أمام فيروس صغير، وترتبك كما لم تفعل في حروب كونية، بل تنهار الأسواق
والأسهم، لقد سقط كثير من البطولات الوهمية، وصار مصير الإنسان مهدداً برمته من أي
فيروسات قاتلة قادمة، ولكن البشر وحتى الدول لم يتعلموا من هذه الجائحة، فالظلم
سوف يستمر، وهذا الظلم الذي يبدأ من الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وتشريد شعبها
واستيطان أرضه هو البوصلة الثابتة بالنسبة إلي، صحيح أن البشر قد يتحدون جميعًا في
مواجهة خطر ما، وتتعاطف الشعوب مع بعضها بعضاً، وقت الخطر، ولكن سرعان ما يتدخل
ذوو المصالح وسيئو النوايا لاستغلال ذلك، وتحقيق مكاسب حتى على حساب الفقراء، لكن
هذا لم يمنع من وحدة الشعور الانساني التي كنت أؤمن بها من قبل، بل كتبت العديد من
القصائد التي تؤكد وحدة الوجود مثل قصيدة “سلالتي الريح عنواني المطر”
ويجدها من أراد في محركات البحث.
نعم تأثر العالم كله بالحجر والعزل والقراءة لم تعد كما كانت ولا الكتابة، ولا حتى الحرية.
الشاعر والباحث السوداني محمد جميل: تجربة فريدة من نوعها عاشها الجميع تقريباً بمستوى واحد من الرعب
كورونا وباء ألقى بحالة من البؤس خيمت على العالم
جميعاً. ولأن الأدباء، والشعراء منهم على نحو خاص، هم أول من تلسعهم ضغوط البؤس،
لأن الشعراء هم أكثر الناس توقاً للحرية، لذلك أثرت فيهم أزمة كورونا بصورة أو
بأخرى. لكل أديب بطبيعة الحال تجربته الخاصة مع كورونا.
من ناحيتي، لم أتأثر كثيراً من ناحيتي الحركة والعزلة في
أثناء فترة الحظر، لأن طبيعة عملي تقتضي أن أعمل من المنزل باختياري، كانت ربما هيأت
لي أن أتواءم مع الوضع، إلى جانب أنني لا أحبذ الخروج من المنزل كثيراً. كما أنني
أعمل غالباً في الليل وأنوم وجه النهار.
بالتأكيد ستفرز كورونا حالات تعبيرية، في مختلف فنون
التعبير والأدب، لأنها تجربة فريدة من نوعها عاشها الجميع تقريباً بمستوى واحد من
الرعب.
القول إن كورونا حاصرت المبدعين ليس تماماً، لأن قدرة
الابداع على الالتفاف كبيرة، أمام كل العوائق. وبالتالي فإن استجابة كل مبدع لتحدي
كورونا قد تأتي مختلفة.
المبدع كذلك جزء من المجتمع وهو أحياناً يصدر في
استجاباته للواقع من حيث تأثره بالمحيط الاجتماعي من حوله، من هذا الجانب فإن
المبدع قد تكون ردود فعله حيال كورونا في بعض الأحيان استجابة من نمط الأشخاص
العاديين.
كورونا ستفرز انعكاسات خاصة بها سواء من حيث الأمراض
التي ستتسبب فيها والحالات النفسية التي ستخلفها كانطباع على كثير من الناس.
لقد كان حصار كورونا في تقديري تحد للمبدعين من جهتي:
الموت والحرية، وإذا ما كتب مبدع بعد انقشاع أزمة كورونا في أي مجال من مجالات
الإبداع فلابد من أن مقاربات المرض من جهتي الموت والحرية ستجد صدى واسعاً في
تجارب فنية وأدبية قادمة. وبالرغم من انني كتبت 8 مقالات تقريباً عن أزمة كورونا
متناولاً إياها من زوايا مختلفة إلا أن هناك حاجة إلى المزيد من تدوير النظر في هذا
المرض الخطير.
لقد وفر كورونا في تقديري وحدة موضوعية لجميع مبدعي
العالم، وهذا في تقديري لم يحدث من قبل في تاريخ البشرية، لأن الاتصال والتواصل
بين البشر في أيامنا هذه لم يسبق له مثيل، لا من ناحية الاتصال ولا من ناحية
التواصل. لهذ فإن التأثير والتأثر سيكون كبيراً جداً.
كورونا في تحديه للبشر وبخاصة الأدباء طرح تحدياً
خطيراً يقابل الموت المجاني من جراء مرض لا علاج له ولا لقاح حتى اليوم، بالحياة
الحذرة في احتياطها البالغ إلى حدود تلغى معها كثير من عاديات الحياة اليومية.
بطبيعة الحال أن تعيش المرض وأجواءه كأديب وشاعر فهذا
لا يعني الكتابة عنه بطريقة (التوك شو) صحيح يمكن للأديب أن ينتقم من كورونا
بالكتابة والمزيد من الإبداع. (أعرف صديقات وأصدقاء وجدوا في فرصة الحظر فراغاً أدى
دوراً كبيراً في عودتهم إلى الاشتغال على كثير من أعمالهم المؤجلة) لكن الاستجابة
لأجوا ء الكتابة عن كورونا تختلف بحسب اختلاف الأدباء ومجالات عملهم.
شخصياً لم أكتب مادة إبداعية شعرية حتى الآن عن
كورونا، فالشعر لا يستجيب آنياً للأحداث، وقد يكتب عنها حين يأخذ منها مسافة في الزمان
والمكان وقد لا يكتب أيضاً.
حتى الآن لايزال أفق هذا المرض غامضاً في غياب لقاح
فعال ودواء فعال، ووسط تحذير من موجات خريف محتملة وقادمة للمرض سيكون التحدي
أكبر، ولن يكون في وسع أحد أن يتنبأ بالحال الذي سيكون عليها عالمنا هذا حتى نهاية
عامنا هذا.
تأثير كورونا النفسي يشمل جزأين؛ خاص وهو الآثار التي
تترتب على المبدع من جراء انحسار الكثير من نمط حياته الطبيعي في العمل والحياة،
وكذلك هناك تأثير آخر يرتبط بحزن المبدع على الآخرين ممن رحلوا جراء هذا المرض
اللعين، سواءً أكانوا أقارب أم أحباءً أم أصدقاءً.
إن الكتابة في أوقات الحظر التي تسمح بفراغ كبير
للمبدع هي فرصة، ولكن ليس بالضرورة كل فراغ يمكن انتهازه كفرصة. لهذا قد يصبح
الشلل الإرادي لدى كثيرين من المبدعين جزء من روتينهم اليومي.
نحن لانزال في قلب هذا المرض اللعين الذي اختطف العالم، وبإزاء تكيف مع هكذا مرض قد يكون من المهم للمبدعين أن يتأملوا في الجوانب النفسية والفلسفية والرمزية لهذا المرض وهي جوانب بلا شك كثيرة وموجودة.
الروائي المصري مختار شحاتة: أزمة كورونا فرصة للنظر في مسودات أعمالنا المؤجلة
أؤمن أن الكتابة إبداع خاص، ولذلك سأخلع على الإبداع
ما أخلعه على الكتابة، وسأتحدث عنها من خلال كلمة الإبداع.
نظن نحن المشتغلين بالكتابة أننا في صراع أبدي مع
الوقت، فكثيرًا ما نشتكي أننا لا نملك الوقت الكافي لإنجازاتنا، إلا أننا لم نختبر
ذلك حقيقة، وهو ما جعل كلمتنا الدارجة “معنديش وقت” شماعة ممتازة لتعليق
كثير من التأخير وأسبابه عليها، بل نبالغ أحيانًا ونجعلها هاجسنا الأول والأخير،
نحن لا نملك الوقت الكافي لمثل هذا الإنجاز!
الحقيقة أن كثيرًا من المؤسسات العالمية في مقابلات
العمل تشترط على المتقدمين أن يكونوا من أصحاب القدرات، وأن يمتلكوا تلك القدرة
المسماة “العمل تحت الضغط”، أي أنها تطلب أناسًا منجزين غير كسولين إن
جاز التعبير، وهو ما يجعل كثيراً من المبدعين دائمًا ما يفشلون في الانتماء إلى
مؤسسات كبيرة تقتضي منهم مثل تلك الالتزامات التي يرى فيها المبدعون أنها شرطًا
مقيدًا للحرية الإبداعية، بينما يتهمها البعض بأنها تأخذ كل وقته، فتتأخر مشاريعه الإنتاجية
والإبداعية كثيرًا.
يواجه عالمنا الآن تحديًا إنسانيًا عظيمًا يتمثل في
أزمة فيروس كورونا المستجد، وهو ما أثر بدوره في منتج المؤسسات والأفراد بشكل عام،
حتى المحترفين منهم، إذ ضاعت مئات الآلاف من فرص العمل، وتقلصت ميزانيات كثير من
المؤسسات التي وجدت نفسها في مواجهة اقتصادية صعبة مع تداعيات هذا الوباء، بينما
وعلى الجهة المقابلة على مستوى الفرد المبدع، فإننا يمكن أن نتفهم أمرًا غاية في
الأهمية، إذ لفتنا الانتباه إلى أن مشكلة المبدع دائمًا الشكاية من الوقت وعدم توافره،
ومع تداعيات الوباء العالمي، والحظر المنزلي والعزل الاختياري الذي فرضته الأزمة،
يمكن أن نتساءل عن هذا الوقت الكبير الذي اكتشفناه فجأة، وليس فقط المبدعين، بل
كافة البشر، فعلى الرغم من تلك الأزمة وضغوطها إلا أنها أعطت فرصة ذهبية لمن
يريدون أن ينعموا بالهدوء والبعد عن ضغوط الحياة اليومية والمقابلات الاجتماعية
وتداعياتها، إذن هي فرصة ذهبية للمبدعين بشكل ما وحسب الظاهر.
يبدو أن المثقف والمبدع بالفعل كائن عجيب لا يمكن
التنبؤ بأفعاله أو ردود أفعال تجاه الأشياء، ربما ذلك ما يحدو بالبعض أن يروجوا
لمقولة مشهورة بأن “الجنون فنون”، وتصير مفردة مثل المجنون مقابلة
لمفردة مثل الفنان والمبدع، بل ويرى فيها البعض ملاحة ونوعًا من التميز، وبالنظر
إلى المبدعين خلال تلك الأزمة سنجد البعض منهم كما قلنا يجدها فرصة مناسبة للعمل
والإنتاج، بينما البعض الآخر يأخذنا إلى ناصية من الروح لم نكن نتخيلها، إذ يشعر
رغم توافر كل هذا الوقت بأنه في محبس جديد، ويبدأ في الحديث عن تلك الحبسة التي
قيدت أفكاره ومشاريعه الإبداعية، وهو ما يضعنا في عجب من هؤلاء الذين كانوا دائمي
الشكوى من ندرة الوقت، إذ ها هم الآن في فسحة منه، لكنهم يراوغون الآن، تحت شعور
طاغ بالحبس والحظر، وأن ذلك الأمر قيد كبير على روحهم المبدعة، وحين نسمع ذلك منهم
نستغربه وربما نستهجنه أو نتهمه.
وهنا ينبغي أن نشير إلى أمر آخر مهم إذ ربما كما
أسلفنا يجد البعض تلك فرصة مناسبة لغزير الإنتاج والإبداع، مستغلا كل شيء من حوله
لأجل ذلك “الإسهال الإبداعي”، وهو ما يضعنا أمام مواجهة حقيقية مع
معايير إبداعية كالقيمة الفنية مثلاً لمثل هذه المنتوجات الإبداعية في زمن
الأزمات، ويثير كثيراً من التساؤلات حولها، وهو ما يوازي السؤال الكبير مثلا حول
الربيع العربي وثورات الشعوب، فهل يجوز أن نكتب أدب ثوراتنا خلال الفترة نفسها
وخلال الحدث؟ أم يؤجل ذلك حتى يخرج ناضجًا ومكتملاً؟ الإجابة ليست واحدة في كل
الحالات، لكن خطورة الإنتاج في ظل الأزمات أنها ربما تكون إنتاجات غير مكتملة
الجوانب، وأن الزمن ربما يضيف على تجاربنا الإنسانية تلك جانبًا لم نكن نتوقعه،
وهو ما يضع إنتاجنا الإبداعي أمام سؤال أكبر حول حقيقة التجربة ومدى انعكاس واقعنا
فيها.
أعرف أن هذه وجهة نظر شخصية تحتمل الاختلاف حولها، لكن
الحقيقة أكثر ما يثير خوفي خلال تلك الازمة أننا نكون أمام سيل من الإبداع لكنه
كزبد البحر، لا يضيف أي جديد لمسيرة الإبداع، بل يمنح الإبداع “الرديء”
بطاقة العبور نحو المجتمع. وفي المقابل أعرف أن المبدع لا بد أن يكون حرًا حتى
النخاع لكن هل لتلك الحرية سقف واضح أم أنها حرية مطلقة كما يطالبون؟ أسئلة كثيرة
يثيرها الوضع الحالي، ويبدو أن المبدع الحقيقي من نجا بنفسه وبإبداعه بعيدًا عن كل
تلك الصراعات ومتصالحًا مع وقته بشكل أو بآخر.
ربما كانت ازمة كورونا فرصة ذهبية للنظر في مسودات أعمالنا أو فرصة لبدء مشاريع مؤجلة، لكن تبقى الحقيقة أنها كلها لن تنتمي إلى الأزمة الحقيقة التي نعيشها الآن، وأن تلك الأزمة تستدعي منا سنوات حتى يمكننا الحديث عنها وكيف كُنا نحن المبدعين خلالها على المستوى الإنساني والإبداعي دون مبالغات.
الشاعر السوداني عفيف اسماعيل: الموت أصبح على مسافة عطسة أو قبلة
لم يمارس هذا الوباء أي فرز طبقي فقد عاث في قصر
المملكة التي لا تغرب عنها الشمس: منذ بداية شهر مارس ٢٠٢٠م
تعيش البشرية على مدار الثانية تحت تأثير حدث كوني مزلزل، وهو جائحة فيروس كرونا
أو جائحة كوفيد -١٩. التي لم تشهد البشرية مثلها منذ وباء الإنفلونزا الاسبانية في
عام ١٩١٨م.
خلقت هذه الجائحة واقعاً دولياً جديداً انعكس على أي
فرد في الجنس البشري، خلق حالة واسعة من الذعر بعد أن عجزت حتى مستشفيات أغنى
الدول حول العالم في استقبال الحالات المصابة، وصارت تفتقد أهم الأدوية المنقذة
للحياة، وصارت خطوط تلفونات الطوارئ الصحية هي خيوط النجاة الوحيدة، لتقديم الإرشادات
للتعافي او الوقاية.
عندما تحول سكان مدينة
“ووهان” في الصين الى مساجين داخل منازلهم، وتبعتهم بعد ذلك كل المدن
الإيطالية، ثم امتد الحصار المسور إلى بقية مدن وقرى العالم، حين أعلنت منظمة
الصحة العالمية عن عدم وجود مصل للوقاية من هذا الفيروس الفتاك أو علاج ناجع له،
ولا سبيل لمجابهته غير أن تغسل يديك بالصابون جيداً !! وتغلق عليك بابك ولا تفتحه أبداً
حتى لا يدخل منه هذا الضيف الثقيل الظل الذي لا يحب الجلوس على الأرائك، بل يتوهط
في صدور اهل الدار حتى الاختناق.
عجزت البشرية التي كانت تتسابق في حروب النجوم، وتأهيل
كواكب أخرى للنزهة للمقتدرين من أهل الثروة، او للنزوح إليها في حالة خراب كوكب
الأرض بفعل الاحتباس الحراري، عجزت مليارات دولارات الدول الامبريالية النهمة
وشركاتها الاحتكارية الكبرى عابرت القارات
عن توفير أبسط المتطلبات لمجابهة هذا الوباء وأصابها الكساد.
لم يمارس هذا
الوباء أي فرز طبقي فقد عاث الكوفيد- ١٩
في قصر المملكة التي لا تغرب عنها الشمس وأصاب ملكتها ورئيس وزرائها، ثم
عبر إلى دول الكومنولث وأصاب زوجة رئيس وزراء كندا، ثم عاد إلى الفاتيكان، وأصاب
البابا فرانسيس واثنين من مساعديه في ذات
اللحظة التي أصاب فيها مئات من فقراء الأمازون
واطراف الخرطوم والدساكر البعيدة من أرض الوطن.
دفعت هذه الهشاشة البشرية المبدعين إلى حالة أعلى من التأمل، واستعادة أسئلة تقبع في مؤخرة الذاكرة لأي مبدع مصاب
بقلق الوجود واكتئابه، مثل سؤال الموت، شبحه
الذي صار على مسافة عطسة، او قبلة او مصافحة حميمة لحبيب او صديق او أي قادم من سفر بعيد، هذه الحالة العبثية
الكابوسية ضيقت من خناق العزلة على المبدع الذي يحيا وسط الجماعة، ويقترف منها
خامة مادته الإبداعية التي تم تجفيفها بصرامة طبية لا تعرف من الألوان غير الأسود
والأبيض، ولا تعرف من المفردات غير الموت والحياة، وصارت هذه الصرامة الطبية
دكتاتوراً كونياً يفرض العزلة والحصار على
كل البشرية بلا استثناء!! ويخص المبدع بقائمة من الممنوعات، ويجعله يقف على رماحه
المسمومة وحده عارياً حتى من الحصى والشارع والأشجار وضفة النيل والناس.
سببَ هذه الوباء أضراراً اقتصادية واجتماعية ونفسية،
ووقع عبء الكون بثقله على مبدعيه ورثة الأوجاع والإشراق وما بينهما من ميلاد وموت.
وصار لا مجال للمبدع غير أن يقفز قفزة ذهنية ذات أبعاد ويعيش افتراضياً بين
الأسافير، ويتشبث بقوة بخيوط الشبكة العنكبوتية لتحقيق تواصل يعيد له بعض إنسانيته.
يبدأ يومه على الريق بتقديم العزاءات الحارة للأهل والأصدقاء والجيران والمعارف
لضحايا هذا الوباء اللعين، يتواصل مزاج اليوم بذات الكأبة في تفاصيله التي ترتبط
بأوجاع الناس في الوطن. ويصبح البحث زهرة وسط هذه القبور الإسفيرية أشبه بمعجزة،
بل يصبح قلبه زهرة دامية ترويها دموعه التي لا تجف.
كانت أجمل المتع الفائقة لأغلب المبدعين قبل أن تطبق
هذه الجائحة بخناق جميع سكان الكرة الأرضية، أنهم كانوا يختاروا عزلتهم على حسب مواقيت
تعرفها بوصلاتهم الداخلية المضبوطة على ذبذبات جزئيات الكون المرئية وغير المرئية
التي يحركها ذات اليسار وذات اليمين مغنطيس روحي لتحديد المكان والزمان لتلك
العزلة المجيدة، وقد تكون أحياناً عزلة وسط الحشود! أو مكاناً قصياً، لكنهم الآن
جميعاً بل استثناء يلتهمهم فخ عزلة اجبارية بين جدرا ن لا فكاك منها. أفرزت هذه
الجبرية المقيتة تأثيراتها النفسية في أي روح طليقة ترفض كل أشكال القيود، وسببت
القلق، والتوتر والاكتئاب، وإيقاظ كثير من الأوجاع النفسية السابقة. وقد سبب ذلك لكثير
من المبدعين التأكل الذاتي والانزواء، أو الغرق في حالات من التوهان أو الهستيريا
والهيجان او إدمان كثير من مستحضرات الغياب لإسكات صدى نواقيس لا يريد ان يتوقف.
قال جلال الدين الرومي: “لا تنطفئ، ربما كنت
سراجاً لأحدهم وأنت لا تشعر”،
لذا قد تجد في ركن معزول من العالم مبدعاً يسهر على شمعته، ويحرسها من كل الأنواء،
ويستثمر هذه العزلة بأوجاعها النفسية ويحولها بأصابع ساحرة إلى طاقة إيجابية خلاقة
مشعة وفعالة، ويرى نفسه محظوظاً قد وهبته عناية الكون العالية فرصة نادرة للعزلة
الاستثنائية مدفوعة الأجر؛ لإكمال كثير من المشروعات الإبداعية التي قد تضئ كثيراً
من المصابيح المطفية.
وهناك مبدع آخر كي يتخلص من ثقل هذا الظرف النفسي الحاذق، استدعى من مخزون تجاربه السابقة مع العزلة الاختيارية، كيف كان يفرد أجنحته في العاصفة، ويهزم الظرف النفسي الحاذق، ويسافر بها في جهات الكون ما شاء له التحليق.
القاصة والروائية المصرية هبة البديهلى: أنا مع من يتابعون باهتمام ولا يكتبون.. في انتظار الفرج
كورونا… تلك كانت البداية، بداية ارتفاع الأسوار من
حول عقولنا، أفكارنا، إبداعنا، فمنا من سكن خلف الأسوار يتابع الأخبار، والإحصاءات،
والإصابات، والوفيات، والمتعافين وغير ذلك من أخبار، كلها أخبار عن تلك اللعنة
التي أصابت العالم، ومنا من انطلقت أقلامهم تلهث خلف إبداع ناتج عن أفكار
استثنائية قائمة على الحدث الجديد، ذلك أنهم قادرون على تحويل الأزمات إلى إبداع
جميل رغم عدم خلوه من الألم والحزن، حتى إذا ما اقترب الوباء واستوطن بلادنا، وتهدمت
بعض الأسوار من حول عقولنا، وكوى بعضهم نار فراق الأحباب والأصدقاء صار يرصد كل ما
مر به من تفاصيل ما يعرفه جيداً وما سمع عنه.
في ظل ذلك كله كنت أنا مع هؤلاء الذين يتابعون باهتمام،
ولا يكتبون، ننتظر إلى ما بعد الأزمة إذا كان مقدراً لنا أن نمر من بين أصابعها
سالمين، أو مجربين لنكتب لعل الرؤية تكون أكثر وضوحاً، فنرصد في أعمالنا بداية
الأزمة وانفراجتها.
احتبست بين سطوري لم أستطع أن اتجاوزها لأطلق العنان
لقلمي، فقد صرت حبيسة التقرير الطبي اليومي وأرقامه المتصاعدة تارات والهابطة تاره،
أبواب الإبداع من حولي موصدة مرصودة على انفراج الأزمة كرصد الفراعين ممتلكاتهم الثمينة
القيمة.
على العموم ستمتلئ أرفف معرض الكتاب ٢٠٢١ بعناوين لكتب تتخللها (كمامة، عزل، أطباء، كورونا، وباء، شفاء، مستشفى، فقد، موت، موت، موت، موت)، إلى ان يجئ الشتاء الذي يليه بمعرضه القاهري المميز، وستفرض العناوين الجديدة حالها ، ويبقى ما كان جيداً، يموت ما لم يكن مع موت الوباء.
الناقد مصطفى الصاوي: فقدت التركيز زادت مشاعر النفور من الكتابة
العالم قبل الكورونا يختلف عما بعد زوالها على مستوى
علاقة الانا بالآخر. وهذا لا يتضمن السياسة وصراعات المحاور والشركات الكبرى التي
تحكم العالم فقط، بل نظرتنا لأنفسنا نفسياً. للعزل آثار تتمثل في إحساس السجين رغم
أهمية العزل والتباعد. ثمة إحباط وتوتر في العلاقات، والضيق في أوسع أبوابه. أغلقت
المركز الثقافية والمقاهي الأدبية وحتى الصالونات الأدبية
.
وشخصياً فقدت التركيز، زادت مشاعر النفور من الكتابة،
ثم تماسكت وعدت لمراجعة رواية الطاعون لكاموا. وقصيدة الكوليرا لنازك الملائكة.
ورواية ايبولا لأمير تاج السر وبعدها ابن عربي هكذا تجاوزت الضيق والكسل العقلي.
وتبقى الكورونا علامة فارقة فاصلة بين زمنين. أتوقع تفاعلاً أدبياً بعد فترة ليست بالقصيرة، ولكن أصعب آثارها تجلى في العزلة غير المجيدة.
الشاعر المصرى محمد المتيم: “كورونا” خلخلت عوالم المبدعين وأخرجتهم من ضيق الصالونات
فهو يرى نفسه طفل الطبيعة المُدلَّل، وهي أمُّه
المانحة، والعالم –ذهنيّاً- لُعبته التي له أن يعبث بها تفكيكاً وتركيباً كيف شاء،
لكن أنّى له ذلك وهو حبيسُ أربعة جدران، ليس جسديّاً فقط، بل ألقى هذا المحبس
بظلاله على الروح الشاعرة/المبدعة، حتى لتكاد تختنق من فرط قسوة الاُطُر المستجدة
على هذا الطفل “المبدع” الشقي!
حاصرت “الكورونا” كوكب الأرض بمن فيه من
كُتّاب ومبدعين، ونجحت هي في خلخلة عوالمهم على غير المعتاد، جاءت مباغتةً
ومُربِكةً، على عدة أصعدة.
الإنسان كائنٌ اجتماعيٌ، يتشكل وعيُهُ ومعارفه من خلال
مئات العلاقات الإنسانية المتشابكة شديدة التعقيد، وعلاقات الكُتّاب بعوالمهم أكثر
تشابكاً وتعقيداً، فهي تتجاوز الإنساني إلى علاقة تفاعلية مع المقهى والشارع
والمترو وكشك السجائر وإشارة المرور.. العلاقات التي يستمد منها مادته في الكتابة،
أو يستقي الحالة الإبداعية من قراءته البصيرةِ لها.
كل هذا أصيب في مقتلٍ، بحالة حظر التجوال المفروضة
رسميّاً، وإن وانتهى ميقات الحظر، فالحظر يتمدد وفق تقدير كل واحدٍ لظروفه الخاصة،
وحرصِهِ على سلامته، وسلامة من حوله.
عشرات الوفيات في محيطنا الشخصيّ يوميّاً، ومئات
الإصابات، لا يمكننا أن نغض الطرف عنها ونتجاوزها للكتابة عنها، فلسنا منفصلين عن
هذا المحيط أبداً بالحد الذي يسمح لنا بالاستثمار فيه إبداعيّاً، ونحن أنفسنا
متورطون فيه إلى أقصى مدى.
حالةٌ من الهلع والترقُّب تضرب بعنفٍ لا تستطيع معه أن
تلتقط أنفاسك لتعاود نشاطك الكتابي بذات الحماسة، إنني مدركٌ أن الكتابات العظيمة
في أحيان كثيرة ترتبط بالظرف العصيب، ولدينا شواهد عديدة من أدب السجون والحروب
والثورات والكوارث، لكنها لا تنضج إلا مع استقرار الحال وصفاء الرؤية، لا أقول
زوال الحدث الكارثي الطارئ، وإنما استقرار الوضع بما يمكننا من قراءةٍ بصيرةٍ
للحدث/الزمن.
مفاجأة غير متوقعة أن نصبح بين عشيةٍ وضحاها رهن
البيوت، كسْر العادة المفاجئ كان صدمةً شلَّت بشكلٍ ما قدرتنا على الاستمرار في
المشاريع الأدبية المفتوحة، إذ انصَبَّ اهتمامنا كله على محاولة التكيف مع مستجدات
الظروف، المستجدات التي سرعان ما انطوت على حالةٍ من رتابة الإيقاع اليومي
المُمِلّ غير المألوف.
وباء كورونا ألقى بظلاله على الحالة الاقتصادية على
كافة شرائح المجتمع ومن بينها شريحة الكُتّاب، الأمر الذي أثَّر في القدرة
الشرائية للكتب والمراجع التي قد تلزم لإنجاز عملٍّ أدبيٍّ، إذ الأولوية
للاحتياجات الماسّة من الغذاء والدواء..إلخ.
ورغم كل ما سبق ذِكره إلا أن هناك وجهاً آخر للصورة..
فالعديد من الكُتّاب والمبدعين تمتّعوا بقدرٍ من
المرونة مكّنهم من استغلال حالة السكون الطارئ في إنجاز مشاريعهم المؤجلة، والبعض
الآخر اتخذ من حالة الخشوع المهيب في حضرة الوباء مُعتَزَلاً يمنحه مساحةً للتأمل،
وإعادة قراءة الحياة والعالم بشكلٍ جديد، وإعادة تقييم مسيرته وحياته.
على صعيدٍ إيجابيٍّ آخر، فمئات المبدعين الذين سجنوا
أنفسهم عبر سنين في الصالونات الأدبية وقاعات المراكز الثقافية، غارقين في مياه
المجاملات المسمومة الراكدة، تنبّهوا لكون العالم أوسع من ندواتهم البائسة،
وأدركوا أن مساحةً عريضةً من الجماهير الغفيرة تحتشد هناك على منصات التواصل
الاجتماعي التي لها من السُلطة والسطوة والذيوع ما ليس للمنصات الخشبية العتيقة.
خرجوا من كهوفهم، ليجدوا الشباب في القرن الحادي
والعشرين له ذائقته الأدبية المغايرة لمألوفهم، له زاويته النقدية المختلفة،
كورونا بشكلٍ ما أخرج أهل الكهف من كهفهم، ربما بعد فوات الأوان..!
عادةً بمجرد ظهور حدثٍ ضخم في العالم يسعى جماهير القرّاء
إلى الاطّلاع على ما قاله الأدب -الرواية والشعر تحديداً- سابقاً بهذا الصدد في
أحداث مشابهة، قامت ثورة، اندلعت حرب، أُثيرت قضية عامة، نذهب مباشرةً للأدب لنعرف
ماذا يقول، وهذا مردُّهُ عندي شخصيّاً إلى كوننا –كعرب- شعاراتيين ومغرمين بالنبرة
العالية أو المُهوِّلة، والمعلومة السهلة غير المستندة للتحليل ومحاولة الفهم..
غير أن الملاحظ حالياً منذ ظهور جائحة كورونا، هو اهتمام قطاعٍ كبيرٍ من القرّاء بالاطلاع على ما يقوله الحقل الطبي بشأن الفيروسات وعلاجها وفترة حضانتها وتوابعها.. نزوعٌ معرفيُّ قد يسحب البساط بشكلٍ ما من تحت أقدام الأدباء كلما تعاطوا مع حدثٍ علميٍّ، الأمر الذي يستلزم منهم الجدّية في الطرح والإتقان إلى حدٍ بعيد.
المخرج المسرحي ربيع يوسف: المبدع قادر على أن يصنع أكسجين الحياة
المبدع شأنه كسائر الناس يمشي في الأسواق ويحزنه فقد
جاره، وتقتله الإبادات الجماعية التي تفرزها شياطين حكومات وشركات ما يسمون أنفسهم
بالعالم الأول، هكذا يموت المبدع جراء الكورونا، لكنه يحيا من موته كطائر الفينيق،
ببساطة لأن لوحته و رقصته… كلماته وجسده يعرفون فضيحة معامل الكورونا وقبلها
الكلاشنكوف والديناميت.
وبمثل ما صحيح أن مختبرات الشر والرأسمال قبيحة
ومدمرة، بمثل ما صحيح أن المبدع قادر على أن يصنع أكسجين الحياة له ولجمهوره، لذا
لست قلقاً على لقاء المبدع بمن لم يخذل يوماً انتظارهم له، وذلك وفاء ليس بالجديد،
فقد عرف المبدعون -باستمرار- كيف يتنفسون في فضاءات الاختناق، والأهم عرفوا أيضا استحداث
الحيل لينجوا من مكر وأحابيل الشر، وما كورونا بحيلها الإعلامية قادرة على أن تبطل
فلاحة المبدع.
سيتشدق إعلام كورونا بأرقام الموتى والمصابين، إلا أن
نرد عليه أنها مسألة وقت، وإن طال سيقصر مع شموس الفجر التي سيشرقها السماء، ومن
تحتها من مبدعين، لذا أرسل ندائي للمستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها أن راهنوا
على المبدع والإبداع فهم منجاة هذا العالم.
أقول مباشرة سيصافحون جماهيرهم من منصات لا أدري
مداميكها أو ملامحها؛ لأنها تتخلق فقط في مخيلة المبدع، وستخرج للناس قبل خروج
الكورونا مهزومة.
أما بخصوص أبي الفنون وجدها المسرح، فلا خشية عليه،
رغم تسلل فيروس كورونا في جنبات ومقاعد صالات المسارح، لا لكون المسرح استحق أبوة
الفنون بصموده أمام الحيل منذ قبل الميلاد، حتى الصافرة النهائية، وإنما لا خوف
لأني أرى أن عروض المسرح ستبدأ من بوابات صالات العرض، حيث يخف المخرجون يمسحون
أطراف جماهيرهم بأذكى المعقمات، وهكذا لن تفسد كورونا هذا الاجتماع الجسدي الحميم
والخالد، كما يجب أن لا ننسى أن الفضاءات المفتوحة ستظل أسيرة وصديقة لعروض
المسرح، ألم أقل راهنوا على المبدع.