شهد السودان خلال يومي ٢٣و٢٥ يوليو الجاري (٢٠٢٠) حدثين، هزا بقوة الساحة السياسية الحزبية والمهنية، والحكومة الانتقالية برئاسة دكتور عبد الله حمدوك.
أحدث التطورات تمثلت في إعلان (تجمع المهنيين) اليوم ٢٥ يوليو ٢٠٢٠ انسحابه من تحالف قوى الحرية والتغيير (الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية) .
معلوم أن تجمع المهنيين (الذي يضم ممثلي نقابات عدة بينهم الصحافيون) قاد الحراك الثوري في أيامه الأولى، عندما كان موحداً، ولم تتسرب الخلافات إلى صفوفه كما هو الحال الآن.
أهم ما تضمنه بيان الانسحاب يكمن في تعهد بشأن سعي (تنظيم تجمّع المهنيين لمؤتمر عاجل للقوى الثورية الموقعة على الإعلان وخارجه، للتباحث بشأن إعادة بناء وهيكلة الحرية والتغيير، لتصبح معبّرةً عن القوى صاحبة المصلحة في حماية مكتسبات ثورة ديسمبر والبناء عليها، فالإعلان في المنتهى والبدء، ملك للشعب السوداني وجماهيره الثائرة).
انتقد بيان الانسحاب من هياكل (قوى الحرية) ما وصفه البيان ب(ارتباك أداء قوى الحرية والتغيير، منذ أبريل ٢٠١٩، وتغليب المصالح الضيقة وتقديم الاعتبارات التكتيكية على المصالح الاستراتيجية الكبرى).
البيان قال إن ( المجاملة والترضيات وضعف الالتزام بالأهداف المعلنة للفترة الانتقالية أصبحت أساس معظم قرارات واختيارات التحالف في علاقته مع السلطة الانتقالية، سواء في الترشيحات أو التعيينات أو القرارات المشتركة).
رأى تجمع المهنيين ( أن تكوين المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير (تم) وفق معايير لا تعكس أوزان وأدوار الكتل والكيانات الموقعة على الإعلان، وكذلك آليات اتخاذ القرارات بداخله، فيما تراجعت كثير من أولويات المهام المتعلقة بالمحاسبة عن الجرائم وإزالة التمكين).
عشية هذا البيان كان حزب الأمة القومي قرر سحب الولاة (حكام الأقاليم) الذين سماهم رئيس الوزراء الانتقالي دكتور عبد الله حمدوك من دون التشاور مع قيادة الحزب التي قالت إنها فوجئت بقرار تسمية الشخصيات الست وهي من قيادات الحزب.
(الأمة) قال إنه بنى قرار سحب (الولاة) على مرتكزات محددة.
( الأمة القومي) كان حدد رؤيته بشأن تعيين الولاة في أربع نقاط:
أولا : أهمية إصدار تشريعات تحدد صلاحيات ومهام الولاة (قبل تعيينهم)..
ثانيا: يشترط في الوالي النزاهة والعدالة والكفاءة والقبول الجماهيري.
ثالثا: مراعاة خصوصية ولاية الخرطوم باعتبارها حكومة توازي مجلس الوزراء وابعادها من المحاصصة (الحزبية).
رابعا: الولايات التي تشهد حروباً او أن أوضاعها ملتهبة يتم التوافق بشأنها بالإجماع.
المتابعون للأحداث السودانية يعرفون أن (الأمة القومي) دعا قبل أشهر عدة، وفي الأيام الأولى التي أعقبت نجاح الثورة الشعبية في ١١ أبريل ٢٠١٩ إلى هيكلة تحالف (قوى الحرية والتغيير) ودعا الى ضم قوى ثورية شاركت في فجر الثورة الى هذا التحالف .
معلوم أن هذا النداء قوبل برفض مستميت من أطراف في تحالف (قوى الحرية والتغيير) لكنها عادت أخيراً، ووافقت على عقد مؤتمر، بعد ما أضاعت فرصة لتنظيم التحالف في توقيت مبكر وتقويته، ليكون سنداً قوياً للحكومة الانتقالية.
(تجمع المهنيين ) أنتقد قبل بيان انسحابه من (قوى الحرية) كيفية تعيين رئيس الحكومة الانتقالية الولاة المدنيين، وقال إن التعيين اعتمد منهج المحاصصة الحزبية وتخطي المعايير والإعتبارات المتعلقة بمؤهلات المرشحين، وتجاوز رؤى أصحاب المصلحة من قوى الحرية والتغيير وقوى الثورة الأخرى ببعض الولايات بتجاهل مرشحيهم أو فرض آخرين يحظون بتزكية المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير.
التعديل الوزاري الذي أعلنه رئيس الحكومة الانتقالية قبل أيام (لم يكتمل حتى الآن) قوبل أيضاً بانتقادات من (تجمع المهنيين) وقوى داخل تحالف (قوى الحرية)، إذ قالت إنها لم تستشر بشأن (التعديل) و إنها سمعت باقالة بعض الوزراء من التلفزيون السوداني.
كل هذا يعني أن هناك أزمة كبرى داخل تحالف (قوى الحرية والتغيير)، إذ إنه لا يلعب دور الحاضنة (الكامل غير المنقوص ) وهذا ينعكس تلقائياً على أداء رئيس الحكومة والوزراء، ما يضعهم جميعاً في دائرة الشد والجذب والاستقطاب والاستقطاب المضاد، أي في قلب الأزمة.
هذا معناه أيضاً أن (قوى الحرية والتغيير) لم ترتق حتى الآن الى مستوى تطلعات الشعب، وخصوصاً الجيل الجديد الذي صنع الثورة بتضحيات الشهداء والجرحى والمفقودين، وأنها (قوى الحرية) غرقت في حسابات حزبية ضيقة، وساهمت برغبة أو من دونها في الانقسام وزيادة معدلاته التي فرضت وجودها على الساحة السياسية حالياً.
رئيس الوزراء ساهم أيضا في حالة الانقسام الراهنة بتعديل وزاري (ناقص) لم يشاور فيه (الحاضنة السياسية) ما جعل بعض الناس يتحدثون عن (حاضنة أخرى موازية لقوى الحرية)، كما ساهم رئيس الحكومة في حالة الانقسام التي يشهدها المجتمع السياسي، وفي الأقاليم بتعيينه ولاة ينتمون لحزب الأمة على سبيل المثال، من دون مشاورة قيادات الحزب .
هذه التفاعلات(سحب الأمة الولاة الستة وانسحاب تجمع المهنيين من تحالف قوى الحرية) تضع تحالف (قوى الحرية) أمام طريقين، إما أن تسارع هذه القوى الى عقد مؤتمر، لتعالج واقعها المأزوم، بمشاركة تجمع المهنيين وقوى الثورة ويشمل ذلك (لجان المقاومة)، أو أن تفقد (قوى الحرية) قدرتها على قيادة الفترة الانتقالية ك(حاضنة سياسية حاكمة بالبرنامج والفعل وليست تحالفاً صورياً مهمشاً)، وفي غياب ذلك ستتعثر الحكومة الانتقالية وقد تنهار بانهيار (الحاضنة) .
هناك خياران أيضا أمام دكتور عبد الله حمدوك، وقد كتبت كثيراً داعماً له، ولحكومتنا الانتقالية، وأكرر أنه يحظى كرئيس حكومة بشعبية غير مسبوقة في أية فترة انتقالية سابقة في تاريخ السودان، وهو جدير بالاحترام.
لكنه الآن في في موقف صعب وشديد التعقيد، وأخاطبه من منطلق الحرص على نجاح الفترة الانتقالية ليتحقق التحول الديمقراطي بحكومة منتخبة.
حمدوك مدعو الى اتخاذ خطوات تؤدي إلى (تعميق) الالتزام بنهج (التشاور والشفافية)؛ لاستعادة ما فقده من دعم من بعض القوى والأوساط، خصوصاً عقب اقالة وزير المالية دكتور ابراهيم البدوي ووزير الصحة دكتور أكرم التوم، وبعدما سحب (الأمة القومي) الولاة الستة، وقرر تجمع المهنيين الانسحاب من (تحالف الحرية) .
لم تقتنع أوساط مهمة وفاعلة ب(معايير) ذكرها رئيس الحكومة الانتقالية في مؤتمره الصحافي قبل أيام بشأن كيفيات تقويم أداء الوزراء، وخصوصاً بعدما تسرب كلام عن عمليات (دس) استهدفت هذا الوزير أو ذلك.
مطلوب أيضا من رئيس الحكومة الانتقالية أن ينأى بحكومته من الصراع بين قوى سياسية ومهنية ، وأن يكون حمامة (سلام) ووئام بين كل هذه الأطراف،وأن يكشف للشعب ماهية اختصاصات وأدوار مستشاريه ، اذ (يتردد) أن بعضهم مثيرو جدل وشكوك) و تحوم حول بعضهم (أقاويل) بشأن أدوار توازي اختصاصات وزراء وتعرقل أدوارهم.
يفترض أن نكون في زمن يسوده مناخ الشفافية التامة، وهي التي في مقدورها كشف الحقائق ودحض الشائعات أو(الفبركات) تجاه هذا المستشار أو ذاك .
ليت تلفزيون السودان يستضيف مستشاري حمدوك ليعرفهم الناس الذين لا يعرفونهم، وليتحدثوا عن أدوارهم، وأن تتاح للمستمعين فرص طرح الأسئلة والحوار.
هذا ليس تشكيكاً في أحد، ولست من هواة الإساءة للناس او التشكيك في أدوارهم، وأرى أن تسود لغة الاحترام والتقدير المتبادل بين السودانيين كافة، لتحل محل حملات قبيحة تسود وسائل التواصل الاجتماعي وتشوه الشخصية السودانية، وهي حملات تسيء لهذا القيادي أو المسؤول أو أي انسان، ولا تناقشه في رؤاه ومواقفه ولا تحترم حق ابداء الرأي والاختلاف .
الشتائم (لأي شخص ) افلاس وضحالة لا تحتاج الى دليل ، ورغم ذلك أرى أن الشائعات والأكاذيب تدحضها الشفافية ولغة الحوار وهي كفيلة اذا صدقت النيات بتحقيق تفاهمات.
خلاصة الرأي أرى أن بيان حزب الأمة بشأن التشديد على العوامل الضرورية التي تؤدي لإنجاح عمل الولاة المدنيين، وخصوصاً إصدار قانون ينظم عمل الولاة، ودعوته في هذا السياق الى الولاة الستة بالانسحاب، ثم بيان (تجمع المهنيين) بشأن الانسحاب من (قوى الحرية) يعبران عن أزمة كبرى وخطيرة، وتحتاج الى وقفة تأمل ومراجعة سريعة للخطى والمواقف من الجميع في (قوى الحرية) وخارجها، ويشمل ذلك حزب الأمة القومي والحزب الشيوعي، وأوساط المهنيين، وهذا يعني ضرورة إجراء عمليات (إصلاح) سريعة وشاملة.
مواجهة التحديات بشفافية مهمة وضرورية، كي يتم تصحيح المسار،وتلبية مطالب مليونية ٣٠ يونيو ٢٠٢٠، والارتقاء بأداء السلطات الانتقالية الى مستوى تطلعات شباب الثورة السلمية الباهرة، والشعب الصابر الذي تطحنه (صفوف) البحث عن العيش الكريم.
مراجعة الخطى في سبيل تحقيق تفاهمات شاملة على طريق الإصلاح تحتاج الى مؤتمر عاجل وشامل يجمع (قوى الثورة) كافة قبل فوات الأوان .
المكاشفة باتت ضرورة أكثر الحاحا، لانجاح الفترة الانتقالية.
إنها أفضل من تبادل الاتهامات، وأنجع من أساليب دفن الرؤوس في الرمال، كي لا يتفاجأ الجميع بأزمات أكبر وأخطر في عالم يشهد كل يوم أزمة طاحنة ومدمرة.
الآن تداهمنا أزمة جائحة (كورونا) ونتائجها الصحية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية مدمرة حتى في دول كبرى.
لا أحد يعلم ماهية (كورونا القادمة سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو أمنية)، وقد تفقدنا السيطرة على مجريات كل الأحداث.
راجعوا الخطى وأصلحوا الحال.. وتضامنوا من أجل سودان (الحرية والسلام والعدالة)..
محمد المكي أحمد
لندن- ٢٥ يوليو ٢٠٢٠