من الواضح أن الاحتجاجات الجماهيرية السودانية الحاشدة التي اندلعت منذ فترة طويلة في السودان، وأقتلعت نظام الرئيس عمر البشير بعد بقائه في السلطة 30 عاما، واستمرت هذه المظاهرات حتى بعد سقوطه حيث نظمت مسيرات قوية وعنيفة سميت أووصفت بالمظاهرات المليونية، كما يعرف الجميع، والتي تطالب بتحقيق المطالب التي قامت من أجلها الثورة وتنفيذ الشعارات الجماهيرية المهمة، حيث يرون أنه لم تحقيق ولا حتى جزء ضئيل منها.
والواقع أن أولئك الذين خرجوا إلى الشوارع في أكثر من 30 مدينة سوادنية يجسدون نقدا أوسع نطاقا ضد المماطلات التي تنتهجها الحكومة الانتقالية بشقها المدني والعسكري من محاكمة رموز النظام السابق ومعالجة القضايا الاقتصادية من غلاء الأسعار وتوفير الخبز والمحروقات البترولية وأرساء قواعد السلام .
هؤلاء المتظاهرون هم أبناء طبقة دنيا ضخمة من السودانيين المثقلين بالظروف المعيشية وبالديون على نحو متزايد، والذين ليس لديهم أمل في أي تحرك اجتماعي صاعد ــ كل هؤلاء السودانيين من مختلف انحاء البلاد ومن كافة الأطياف ثاروا ضد النظام السابق وممكن أن يثروا ضد الحكومة الانتقالية أو أي نظام آخر إذا تم خذلانهم.
لا تقتصر ظاهرة الثورات في السودان ليس فقط على ثورة 11 أبريل الحالية بطبيعة الحال. ففي أكتوبر 1964 وأبريل 1985 تكررت مثل هذه المشاهد و هزت مظاهرات مثلها أنظمة دكتاتورية عسكرية واستقطتها رغم قوتها وبطشها وعنفها.
والغريب في الأمر ان هذه الاحداث او هذه الثورات يرجع إلى أسباب مختلفة ولكن تتشابه في عواملها وهنالك قاسم مشترك هو الكبت العنيف للشعب السوداني بكتمان حريته في ظل اجهزة امنية تستخدم القوة ضد كل من يريد أن يتحدث عن فضائح هذه الانظمة الدكتاتورية، فقد احتفظت بأقوى جهاز مخابرات في القارة الإفريقية بل ربما منظقة الشرق الأوسط، كما أن هذه الثورات عكست جميعها الاستياء إزاء الضائقة الاقتصادية، والفساد، والافتقار إلى الفرص الاقتصادية في السودان في ظل ووجود موارد اقتصادية طبيعية لم يتم استغلالها. وتساعد ذات العوامل في تفسير الدعم المتنامي الذي حظي به قادة شعبويون ومستبدون في السنوات الأخيرة.
هذا الوضع التسلطي خلق طبقة البريكاريا هي النسخة المعاصرة من بروليتارية كارل ماركس: طبقة جديدة من العمال الـمُـبـعَـدين الذين يفتقرون إلى الأمان والذين صاروا جاهزين لتبني التطرف والتعبئة ضد البلوتوقراطية (حكم الأثرياء، أو ما أسماه كارل ماركس، البرجوازية). الآن، تنمو هذه الطبقة مرة أخرى، ويتألف قسم من طبقة البريكاريا من المحافظين المتدينين الأصغر سنا والأقل تعليما في البلدات الصغيرة والمناطق شبه الريفية الذين أعطوا أصواتهم للأحزاب السودانية التقليدية في أوقات الأنظمة الديمقراطية. وكان أملهم أن تفعل هذه الأحزاب حقا شيئا حيال الضائقة الاقتصادية التي عان منها السودانيين منذ فترة طويلة وحتى اليوم .
لكن طبقة البريكاريا السودانية تضم أيضا تقدميين علمانيين حضريين من ذوي التعليم الجامعي والذين احتشدوا في السنوات الأخيرة خلف ساسة سموا انفسهم ثوريين من الحزب الشيوعي والبعثيين والحركات المسلحة وتكتلات نقابية ومهنية، وهذه المجموعة هي التي نزلت إلى الشوارع للمطالبة ليس فقط بالعدالة بل وأيضا بالفرص الاقتصادية وتوفير الوظائف وتخفيف معدلات العطالات التي بغلت أرقام عالمية .
لا ينبغي لهذا أن يفاجئنا، إذا وضعنا في الاعتبار أن فجوة التفاوت في الدخل والثروة كانت في اتساع لعقود من الزمن، بسبب عوامل عديدة، بما في ذلك العولمة، والتجارة، والهجرة، والأتمتة، وإضعاف العمالة المنظمة، وصعود الأسواق التي ترفع شعار “الفائز يستأثر بكل شيء”، والتمييز العنصري. ويعمل النظام التعليمي المنفصل عنصريا واجتماعيا على تعزيز أسطورة الجدارة في حين يساهم في توطيد مكانة النخب، التي يحظى أبناؤها على نحو ثابت بالقدرة على الوصول إلى أفضل المؤسسات الأكاديمية ثم يواصلون للحصول على أفضل الوظائف (ويتزاوجون عادة بين بعضهم بعضا، مما يعيد بالتالي إنتاج ذات الظروف التي استفادوا منها هم أنفسهم).
من ناحية أخرى، خلقت هذه الاتجاهات حلقات سياسية ارتجاعية من خلال ممارسة الضغوط، ، وغير ذلك من أشكال النفوذ والتأثير، مما أدى إلى زيادة ترسخ مفهوم تنظيمي يعود بالفائدة على الأثرياء..
ويقول الاقتصادي توماس فيليبون في كتابه “الانقلاب العظيم”، إن تركز قوة القِـلة المحتكرة في أيدي فئة معين يزيد من تفاقم التفاوت بين الناس ويجعل المواطنين العاديين مهمشين. الواقع أن قِلة من الشركات الأسطورية، والتي يديرها قِلة من المحظوظين في العشرينيات من أعمارهم، لن تغير حقيقة مفادها أن أغلب الشباب السوادنيين يعيشون بشكل متزايد حياة محفوفة بالمخاطر ويؤدون أعمالا لن تقودهم إلا إلى طريق مسدود.
من المؤكد أن الحلم السوداني كان دائما أكثر طموحا من الواقع. إذ كان الحراك الاقتصادي والاجتماعي والحراك بين الأجيال قاصرا دوما عن ما توحي به أسطورة الرجل العصامي الذي صنع نفسه بنفسه. ولكن مع تدهور الحراك الاجتماعي الآن مع اتساع فجوات التفاوت، بات الشباب اليوم محقين في غضبهم ضد أي حكومة لم تنصف حقوقهم ولذلك فأن الثورة قادها الشباب أخيرا بمعزل عن أي احزاب سياسة والتي لحقتها نفسها في الرمق الأخيرة للالتحاق بركب الثورة.
الآن تثور البروليتارية الجديدة ــ البريكاريا من مليونية إلى ثانية أخرى من كل فترة وأخرى، وذلك في إعادة صياغة لعبارة ماركس وفريدريك إنجلز “، ربما نستطيع أن نقول: “دع فرائص الطبقات البلوتوقراطية ترتعد إزاء ثورة البريكاريا. فلن يخسر البريكاريون شيئا غير الأغلال التي تكبلهم. وإذا فازوا فسوف يملكون السودان.