استظلت أمريكا منذ وفاة جون لويس، عضو مجلس النواب الأمريكي ورفيق مارتين لوثر كنق في النضال لحقوق السود في الستينات، بعبارة له هي “لنثر المتاعب الجيدة” (GOOD TROUBLE). ويريد بها أن نيل الحق ليس بالأماني بل بإثارة المتاعب الغراء في وجه أهل السلطان. وحُسن هذه المتاعب في سلميتها. وهي السلمية التي تعاقدت عليها حركة حقوق السود في وجه دعاة العنف. وكانت عزيمتهم في احتمال هذا الأذي أن ما تجره السلمية منه “شقاء للخلاص”. وارتسم هذا الأذى على جسد لويس خلال قيادته، وهو حدث ما يزال، مسيرة من سلما إلى مونتغمري (ولايا ألباما) عند كبري إدموند تبس”. فتلقى ضربة من الشرطة على أم رأسه لم يصدق أحد نجاته منها.
لم أملك وأنا اشاهد تأبين لويس على التلفزيون من التعريج على من دعوا لإثارة المتاعب المسلحة في السودان. فقد انبنت حركة الحقوق المدنية الأمريكية على كفالة حق التصويت للسود الذي كانت تقف دونه إجراءات وإرادات أمريكية بيضاء ماكرة قضت باستبعاد الصوت الأسود ما وسعها من صندوق الاقتراع. وهذا هو الديدن بصورة أو أخرى إلى يومنا حتى كانت آخر كلمات لويس “صوتوا في نوفمبر القادم”. فربطت الحركة بشكل وثيق بين الاحتجاج وتوسيع ماعون الديمقراطية. ففلسفة الحركة كانت أن توسع ماعون الديمقراطية بالنضال لتمتلك ناصية التشريع في البرلمان. ومتى غيرت شرائع الظالم في عقيدتهم كسبت القلوب.
وبرغم ما تسمع من انتساب الحركات المسلحة لحركة الحقوق المدنية الأمريكية إلا أن الخلاف بينهما من وراء إثارة المتاعب بين. فالحركات لا شاغل لها بالديمقراطية لا في وسطها هي ذاتها، ولا في ما بينها، ولا في مجتمعها الذي خرجت لإنصافه. فالديمقراطية بغية المركز بينما بغية الحركات السلام. وتنسى الحركات أن السلام لم يصر مطلباً إلا لخوضها الحرب من أجل ديمقراطية حرمتها منها حكومة المركز الطاغية. فالديمقراطية هي أصل العلة والحرب تابعة وكذلك السلام. فلم تر هذه الحركات في عودة الديمقراطية باباً انفتح للتشريع الوطني والمحلي لتنمية الوطن. ولما لم تر في الديمقراطية كسباً لقضيتها اقتصرت على ما يليها وهو السلام المفهوم أنه صفقة نهائية في تقسيم الثروة والسلطة. وهو اقتسام لا يحتاج لديمقراطية. فاقتسم نميري السلطة والثروة مع القوميين الجنوبيين في 1972 وحدث عن اقتسامات البشير لهما مع قوميي الهامش من كل شاكلة ولون.
بلغ فصل الحركات المسلحة بين الديمقراطية والسلام حد اتهام ثوار المركز بتغليب الديمقراطية على السلام بعد كل الثورات التي نجح فيها هؤلاء الثوار باسترداد الديمقراطية. وساقها هذا الفصل بين الديمقراطية والسلام إلى مغامرات غير محسوبة اعتزلت به الديمقراطية المستردة وسهلت للثورة المضادة الانقضاض عليها. وما يجرى من مفاوضات جوبا لا يحتاج إلى بيان. وهذا الفصل الضار بين الديمقراطية والسلام ما ارتكبته حركة أنيانيا بعد ثورة أكتوبر والحركة الشعبية لتحرير السودان بعد ثورة 1985 بتكلفة عالية للحركة الثورية في المركز حتى تساءل أستاذنا عبد الخالق محجوب يوماً إن لم تكن الحركات القومية الجنوبية خصماً على الحركة الثورية.
من أغلى ما سمعت في تأبين لويس قول أحدهم إنه يقال إن الشخص على الجانب الصحيح من التاريخ ولكن في حالة لويس جاز القول إن التاريخ هو الذي في الجانب الصحيح من لويس. وقال الرئيس السابق جورج بوش في غلاوة الديمقراطية إنه اختلف مع لويس والاختلاف لا مهرب منه وهو دليل مادي على أن الديمقراطية شغّالة تمام.