قمع متظاهرين باستخدام الغاز المسيل للدموع (بكثافة) أو مجرد استخدامه، أيا كانت النسبة، ضد متظاهرين سلميين (١٧ أغسطس ٢٠٢٠ )أمام مقر مجلس وزراء (حكومتنا المدنية ) وفي أي موقع ، هو بكل المقاييس إجراء قمعي مدان بأقوى عبارات الادانة.
لا يوجد مبرر لاستخدام العنف رغم اصرار بعض المتظاهرين كما تردد في يوم (جرد الحساب) على أن يخرج (رئيس حكومتهم المدنية) ليخاطبهم، ويرد على استفساراتهم، بشأن فشل الحكومة الملموس حتى الآن في وقف تدهور الأوضاع المعيشية، وتحقيق العدالة والسلام والكثير من الملفات.
المؤكد أن الحكومة الانتقالية تعرف ولا تنسى أنها نتاج نضال شاق قاده شباب سوداني من الجنسين وقوى سياسية ومهنية.
ما جرى أمس أثار غضب شباب الثورة وأسر الشهداء والجرحى والمفقودين، وشكل طعنة في قلب المواطن وأي شخص ساهم بمواقفه وتضحياته في صناعة فجر الحرية والتغيير .
استمرار أساليب القمع -بعد سقوط النظام الديكتاتوري – يجب أن يدان من الجميع، لأنه يمس حقوق المواطنة وينتهكها،سواء كان المواطن مؤيدا للحكومة أو معارضا لها .
ما يزيد المواجع والغضب أن يجري استخدام الغاز المسيل للدموع أولا لقمع التظاهرات السلمية، ثم تتواصل الأساليب القمعية بالملاحقة والمطاردة وممارسة الضرب، وينتهي الأمر بجرحى في مستشفيات و(معتقلين) وفقا لروايات شهود عيان ومراسلين مهنيين !
هذا يدعو ني للتساؤل : لماذا تستمر هذه الأساليب القبيحة ونحن في مرحلة تحول نحو الحرية والسلام والعدالة؟
تفريق حشود ١٧ أغسطس ٢٠٢٠ في الذكرى الأولى لتوقيع المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير على (الوثيقة الدستورية) تحول من احتفاء بانتصار ارادة الشعب وإصراره المتواصل نحو بناء الدولة المدنية الديمقراطية الى حدث مأساوي ، ومناسبة لتجديد المطالب .
المطالب تدعو (الحكومة المدنية) الى الوفاء بالتعهدات ، وهي تعني ضرورة تنفيذ أهداف الثورة، التي ترمي الى التغيير الشامل، وبناء مجتمع عصري تسوده الحرية والسلام والعدالة .
إنها مطالب ثورتهم ، ثورة الشعب ،وسيحرسونها بدمائهم، كما نجح الشهداء والجرحى والمفقودون بدمائهم بتعبيد طريق الانتصار .
استخدام العنف أمام مقر الحكومة واستمراره في أي مكان باقاليم السودان يسدد ضربة قوية للحكومة ، اذ أنها المسؤول الأول عن أمن المواطن وحقوقه في التعبير السلمي عن رؤاه ، سواء عارضت الحكومة أو أيدتها.
من يقرأ تفاعلات الأحداث في السودان خلال الأشهر الأخيرة يدرك أن الحكومة تواصل (برغبة منها أو من دونها) عزل نفسها عن الشارع السياسي والشبابي بشكل متسارع .
إنها تعزل نفسها عن الثوار اذ لم تستطع (على سبيل المثال) حتى الآن وقف معدلات الغلاء الطاحن كما كان الحال يوم استلامها السلطة ، ولم تحقق السلام الشامل حتى الآن ، ولم تحاكم المجرمين ،وفشلت في بناء علاقات خارجية متوازنة لا تسقط في وحل المحاور ، ولم تطبق بعض بنود الوثيقة الدستورية ، وتنازلت (طوعا أو كرها ) عن بعض سلطاتها لمجلس السيادة، ومع كل هذا تزداد قسوة الحياة ،والمكابدة وآلام الشعب .
الحكومة تعزل نفسها (بأساليب عدة) عن حاضنتها السياسية التي تعاني هي الأخرى من حال التشرذم واللافاعلية وبؤس الخطاب والخيال السياسي ، ويبدو ذلك واضحا في عدم القدرة على مواكبة نبض الجيل الجديد، المتحد ، والمتضامن حتى الآن ، رغم وجود محاولات لشق صفوفه، وأدعوه للتماسك وتوحيد الخطى في (لجان المقاومة ).
قوى الحرية مطالبة بادانة استخدام العنف ضد متظاهرين ،واذا لم تعلن ادانة جماعية لعمليات القمع التي جرت أمس فان الشارع سيضعها في (تقويم واحد) مع (حكومة انتقالية) تتعثر خطاها وتفشل حتى الآن في الاعتماد على نهج الشفافية التامة وليست الانتقائية.
الشفافية غير المنقوصة تكشف الحقائق وتفاصيل التحديات الداخلية والخارجية للشعب يوميا ، وتحقق العناق الحميم مع الشباب و الشعب المطحون ب(صفوف) البحث عن أبسط مقومات الحياة .
الشفافية تحتاج الى تعميق الحوار مع الشباب والشعب وقواه السياسية، اذ لا توجد ديمقراطية من دون أحزاب ، وهذا ما يجب أن يفهمه بعض الشباب.
الشفافية التامة بطرح حقائق الواقع تمكن الحكومة من اقناع المواطنين بجديتها وجهودها المتواصلة ، لتحقيق أولويات (حكومة الثورة) وفي صدارتها توفير متطلبات العيش الكريم.
الأهم في هذا السياق أن تؤكد الحكومة بسياساتها وبرامجها العملية أنها لم تفقد البوصلة، اذ أن الكلام والتصريحات في غياب العمل الملموس والمحسوس للمواطنين لا يصنع رأيا عاما داعما للحكومة، بل سيشكل رأيا عاما مناهضا لها حتى في الأوساط التي اختارتها ودعمتها لتجلس على كراسي الحكم .
شعبنا يستحق أوضاعا أفضل ، لأنه فجر ثورة مدهشه رواها بالدماء، وهو يتطلع الى استثمار موارده الوفيرة ، بعيدا عن الفساد والسياسات الفاشلة .
شعبنا يستحق اداء حكوميا أفضل …
حتى الآن لا أدعو الى اسقاط الحكومة الانتقالية ، أدعوها ورئيسها وقوى الحرية والتغيير، ومن هم خارج صفوفها المتصارعة، الى تصويب المسار.
أعتقد بأن تصحيح مسار حكومة حمدوك الذي (وجد قبولا شعبيا لافتا هو الأعلى اذا ما قورن بأية فترة انتقالية سابقة إضافة الى أسباب أخرى ) هو الخيار الأفضل حاليا .
لكن اذا لم يقم ، ويقوموا في (قوى الحرية والتغيير) ومن هم خارجها بعملية جراحة لتصويب المسار ، فان الأحداث ستتجاوزهم .. اذ أن دائرة التململ والغضب الشعبي تزداد اتساعا مع صباح كل فجر جديد .
ايقاعات الثورة مستمرة..
في مقدور شبابها من الجنسين الذين اسقطوا حكما ديكتاتوريا ظالما باطشا ، بالتضامن مع من يؤمنون بالتغيير الشامل أن يغيروا معادلات الوضع الراهن، اليوم أو غدا .
كما أن أوضاع الإقليم والعالم ساخنة ومفتوحة على كل الاحتمالات ،وهذا يؤثر على السودان الذي يعتمد على حيوية الدعم الاقتصادي والسياسي الإقليمي والدولي .
لا استبعد في هذا السياق حدوث تطورات ساخنة في السودان والإقليم والعالم قد تقلب كل المعادلات وتزيد أوضاع السودان تعقيدا .
أقول مجددا سارعو الى توحيد الرؤى والخطى ، لتحققوا الإصلاح الشامل قبل أن تداهمكم مصائب ومصاعب أكبر وأخطر، وحينها قد تفقدون السيطرة على مجريات الأحداث ..
محمد المكي أحمد
لندن ١٨ أغسطس ٢٠٢٠